أبو بكّر العيادي: جوائز الرواية العربية تعلي من شأن الرداءة

عبدالدائم السلامي

أبو بكّر العيادي (مولود عام 1946 في محافظة جندوبة التونسية) قاص وروائي مُقيم في فرنسا منذ سنة 1988، يُعدُّ أغزرَ الكتاب التونسيّين إنتاجا أدبيّا. يحدّثنا العيادي في هذا الحوار عن «الذين انخرطوا في الرواية بغير زاد» وعن «ضعف مستوى الروايات الفائزة بالبوكر وكثرة أخطائها الفنية» إضافة إلى عدم استبعاده أن «يأتي يوم لا يسمح فيه لغير الأدب الحلال، والشعر الحلال».
• هل حجم الانفجار الروائي العربي الراهن يساوي حجم ما في النصوص من أدبيّة؟
■ أبدا، وهذا أمر طبيعي، لا يخص الساحة العربية وحدها، بل يشمل حتى البلدان المتقدمة، فما كل ما يُنشر هنا أو هناك جيّد بالضرورة. ثمة كتاب مُجيدون يحملون مشروعا يرصفون بنيانه لبنة لبنة، وثمة في المقابل آخرون اقتحموا الرواية عنوة، من دون دراية وافية بشروطها، إما للتكسب، وإما مجاراة لموضة اجتاحت العالم كله، ولم يسلم منها حتى الحكام كصدام حسين وجيسكار ديستان. من ثَمّ لا يمكن بحال أن نعثر على الأدبية في كل النصوص، ولا أن يكون رصيدها العامّ مساويا لحجم ما ينشر، فما كلّ من كوّر العمامة بعلاّمة، كما يقول المثل، وما كلّ من ينشر محاولة سردية يضمن حضوره في سجلّ الروائيين. ثمة من يرى في هذه الطّفرة التي نشهدها في العالم العربي منذ نهاية القرن الماضي علامة صحّة، بدعوى أنها تنبئ بتزايد نسبة قراء الرواية من جهة، ومن جهة ثانية أننا لن نعدم أعمالا جيدة وسط هذا الزخم، وهذا رأي مردود عليه: أولا لأن نسبة القراءة لا تزال متدنية حتى في أوساط الكتاب أنفسهم، ولاسيما الفئة الثانية التي انخرطت في الرواية بغير زاد. ثانيا لأن الغثّ إذا تكاثر طغى على السّمين، والأعشاب الطفيلية إذا زاحمت نبتا خنقت أنفاسه. المشكل أن الطفيليات ما عادت تجد من يتصدى لها، إما لتعفّف النقد عن مناجزة أقلام لا قيمة لها، وإما لكونها مدعومة من نقاد باعوا ضمائرهم أو وسائل إعلام مأجورة تهمل الجيّد وتحتفي بالرديء. ولنا في رواية صدرت حديثا للفرنسية أناييس جانيريه خير مثال، فهي رديئة بكل المقاييس، ولكن النقد أثنى عليها، لكون المؤلفة زوجة فنسان بولوري، رجل الأعمال المعروف وصديق الملياردير أرنو لاغردير مالك عدد من الصحف والمجلات.
• تُنبئ الملاحظة بأن تشظية النصّ الروائي صارت موضة أغلب روائيّينا الآن، وهو أمر حوّل الرواية إلى مجموعة أقاصيص وحكايات لا يجمع بينها سوى اسم كاتبها، فهل هذا مُحيل على فراغ معيشنا من حكاية تامّة قابلة لأنْ تُروى؟ أم هو ضعف النَّفَس السردي لدى هؤلاء؟
■ لا يخلو واقعنا من حكايات جديرة بأن تروى، بأسلوب فني طبعا، أو بأن ينهل منها الكاتب خاماتها ليجمّع عناصرها المتناثرة في عمل سردي، ويجلي منها قيما إنسانية كونية. حسبُ المرء أن يقلّب النظر حوله ليرى مقدار ما يزخر به المعيش اليومي من مشاريع روايات، أقول مشاريع، لأن الرواية ليست مجرد حكاية تروى، وإن كانت تقوم على الحكي، وإنما هي لوحة فنية يقارب الكاتب من خلالها الواقع وفق رؤية مخصوصة يتميز بها عن سواه. فالعيب إذن ليس في الواقع، أيا ما يكون، وإنما في من يتناول هذا الواقع، وهو لا يملك شروط معالجته فنيا. وفي رأيي أن تشظي النص يعزى إلى سبب أساس هو مبالغة بعض الأكاديميين (وأنا هنا أتحدث عن الحالة التونسية) في الاحتفاء بنظريات غربية، نعرف أنها لا تخرج عن بؤر ضيقة تنحصر في فضاء الجامعات وبعض الكتاب الباحثين عن التميز بأي ثمن لتكريس أسمائهم، عملا بمبدأ «خالف تعرَف»، ولكنها تُضخَّم عندنا لتغدوَ مثالا واجب الاحتذاء والاقتداء، ومن لم يفعل عُدّ من رافضي الحداثة. فمنذ ربع قرن تقريبا، صار التجريب عندنا هو القيمة المثلى التي تقاس على ضوئها الأعمال الروائية، فباتت المحاولات التي تلتزم بالوحدات المتعارف عليها في جنس الرواية تقليدية ممجوجة، فيما تلقى الأعمال المتشظية حسن قبول. هذا التشظي الذي انساق إليه حتى المتمرسون، إما طمعا في نيل رضا الأكاديميين، أو سعيا للجديد المختلف، أطمع خلقا غير قليل لا يملك حسّا أدبيا ولا نفَسًا سرديّا ولا وعيا بما ينبغي أن يكون عليه العمل الروائي، تماما كما حصل مع قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا، فكانت النتيجة ما يغمر ساحتنا اليوم من كتابات لا تندرج ضمن أي جنس أدبي، ولكن أصحابها يصرون على وضعها تحت لافتة الرواية التجريبية، بل إني وجدت من بعض أصدقائي الأكاديميين من يرى في مجاميعي القصصية التي درجتُ على جعلها تدور حول ثيمة واحدة – كالغربة في «الضفة الأخرى» ومنظومة الاستبداد في «لعنة الكرسيّ» وثورة الربيع العربي في «جمر كانون» – روايات مكتملة الشروط.
• ما مدى وجاهة القول بأن الأديب العربي يتعامل مع الجوائز بشكل غير أدبي: فهو يتقدّم إليها بنصّه سِرًّا، فإن فاز امتدح الجائزة وأهلَها، وإنْ لم يفز مال إلى ذمِّها والتشكيك في مصداقية لجنتِها؟
■ هؤلاء ينطبق عليهم مَثل الثعلب الذي سعى إلى عنقود عنب فلما عجز عن الوصول إليه قال إنه حصرم. سلوك هؤلاء غير أخلاقيّ في الحالين، فهم من جهة يظنون بنصوصهم وبلجان الجوائز الظنون، ومن جهة ثانية ينطقون بخلاف ذلك عند الفوز، وهذا سلوك لا يليق بمن يفترض فيه أن يكون للناس مثالا وقدوة، ولكنه للأسف دليل على ما تردّى إليه جانب مهم ممن ينتسبون إلى الأدب خاصة والثقافة عامة من الناحية القيمية. فالغاية عندهم تبرر الوسيلة. أذكر في هذه الصدد كاتبا معروفا تقدم لمسابقة في القصة القصيرة باسم مستعار، ولما فازت قصته لجّ كي يثبت أنها من وضعه، ونال في النهاية الجائزة والاحتقار. ومِثل هذا السلوك ليس حكرا على الكتاب وحدهم، بل يشمل حتى اللجان ورؤسائها، كحال رئيس لجنة إحدى الجوائز الكبرى التي تنظم في تونس، فقد اتصل ذات دورة بكاتب معروف لتهنئه بفوز روايته بالجائزة ودعوته إلى إعداد كلمة يلقيها أثناء حفل التوزيع، ثم فاجأه في اليوم التالي بأن الفائز شخص آخر، واتضح أنه سحبها منه ليسلمها إلى كاتب مغمور تنازل له عن قيمتها المالية.
• هل يجوز القول إن النصوص الفائزة بالجوائز هي جديرة بها فعلا؟
■ الجوائز تخطئ وتصيب، لأنها تقوم في العادة على معايير انطباعية قد تتغير بتغير المتلقي، ولكنها عندنا تخطئ أكثر مما تصيب، إما عن سوء نية كما ذكرنا في المثال أعلاه، أو عن قصد تلبية لشروط الجهة المانحة، أو نتيجة ذائقة تقليدية غالبا ما تستحسن المكرّس وتستهجن الباحث عن أفق كتابة مغاير. صحيح أن الجوائز العالمية الكبرى جانبت الصواب مرارا، فكم من عملاق قضى نحبه من دون أن يحصل على جائزة نوبل، أمثال بورخيس وسيلين وعزرا باوند وفرجينيا وولف ونابوكوف ويشار كمال وإيطالو كالفينو، وكم من كاتب فرنسي كبير لم يحز جائزة غونكور أمثال سانت اكزوبيري وكوليت ونتالي ساروت وأراغون، بل إن لجنة غونكور فضلت عام 1932 رواية لكاتب مغمور يدعى غي مازلين على «رحلة إلى أقاصي الليل» للعبقري سيلين. ورغم ذلك فغالبا ما تكون أعمال الفائزين جيدة، وفي الأقل صالحة للقراءة، وهو ما لا نجده في معظم جوائزنا المحلية والعربية.
وبصرف النظر عن تركيبة اللجان التي يصادف أن تضم أناسا لا علاقة لهم بالجنس الذي سوف يصدرون فيه حكمهم، غالبا ما يصاب القارئ بالخيبة أمام النصوص العربية المتوجة، وحسبنا أن نتوقف عند الروايات الفائزة في جائزة البوكر للسنوات الأخيرة كـ»الطلياني» للتونسي شكري المبخوت و»مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» للفلسطيني ربعي المدهون، فهي في عمومها متواضعة، مشوبة بأخطاء فنية فادحة، لا ينظر إليها إذا ما كتب لها أن تترجم إلى اللغات الأجنبية – وهذا هو الأفدح- إلا كما ينظر إلى الفن البدائي في المجتمعات المتخلفة، ولا أعتقد أن هذا يخدم الرواية العربية في مجملها. والخطر ليس في إعلاء الرداءة فحسب، وإنما أيضا في صنع قامات زائفة تستغل الجائزة لقمعِ كل من أبدى رأيه فيها من دون مجاملة، وقذفِه في أحسن الأحوال بالحسد والغيرة، بل إن المبخوت مــــثلا ابتدع صــــيغة جديـــدة لإرهاب كل من تحدثه نفسه بنقد روايته نقدا لا يجري مجرى الإطراء، إذ يعمد إلى إعادة نشـــر المقال الذي لا يروقه على صفحته بالفيسبوك مع ملاحظة «مقال سلبي»، فينبري طلبته وزملاؤه في رمي صاحب المقال بأقذع الشتائم.
• هناك خطابان يحكمان واقع الكاتب العربي: خطاب ديني وآخر عَلماني، فهل يمكن لهذا الأمر أن يؤثّر في خطابه الأدبيّ الخاص؟
■ الشرط في الكاتب، وأنا أتحدث تحديدا عن المبدع، أن يتجرد من الأيديولوجيات، دينية كانت أم سياسية، لأن الأيديولوجيا أيّا ما تكن تعقل حريته وتشدّه إلى منظومة فكرية معينة، والحال أن الإبداع في المطلق هو إنشاء على غير مثال، وصاحبه متمرد على الأفكار والأساليب التي تسود مجتمعه، بحثا عن طريق لم يألفها قبله سابل، وبالتالي يُفترض فيه ألا يتقيد بالمحظورات الثقافية المعروفة، بل يمارس إبداعه بحرية، غير عابئ بتلك المحظورات. ولكن لما كان الكاتب ابن بيئته، فهو لا يستطيع أن يصمّ أذنيه عن الخطابين اللذين يحكمان واقعه اليوم، ولاسيما الخطاب الديني المتشدد الذي يتوسل بالعنف وبفتاوى القتل لمصادرة سعي الكتاب والمفكرين إلى إعلاء خطاب علماني يحتكم إلى العقل وليس إلى مقولات مدفونة في بطون الكتب العتيقة. والخطر أن يستشري الخوف في وسائل الإعلام ومؤسسات النشر فتضع شروطا تلزم الكتاب بتجنب ما قد يفسر بالإساءة إلى العقيدة، وأن ينتقل ذلك الخوف إلى الكتاب أنفسهم فتتضخم لديهم الرقابة الذاتية اتقاء ما قد ينجم عن جرأتهم. فبعد المطاعم الحلال، والفنادق الحلال، والمسابح الحلال قد يجيء يوم، طالما استعصت شوكة التطرف على الكسر، لا يسمح فيه لغير الأدب الحلال، والشعر الحلال وما إلى ذلك من بدع. والأمل معقود على كتاب حقيقيين لا يساومون على حريتهم، ولا يتنكبون عن معالجة الواقع بفكر حداثي تقدمي رغم المخاطر، على غرار الأدباء الذي كانوا خاضعين للمنظومة الشيوعية البائدة، أو كتاب أمريكا اللاتينية تحت الطغمة العسكرية، وكانوا قد تصدوا بنصوصهم لأنظمة شمولية رهيبة، بأساليب فنية بديعة.
• توزّع جهدك الإبداعي على مجالات الرواية والقصة والترجمة والمقالة الصحافيّة، كيف تتعايش فيك كلّ هذه الفنون؟
■ يمكن أن تضيف إليها أيضا قصص الأطفال وروايات اليافعين والتمثيليات الإذاعية والمسرحيات والسيناريو والمؤلفات المدرسية… هي رحلة ممتعة في قاموس اللغة العربية، أغرف منه ما تيسر، وأطوعه بما يناسب كل جنس وكل سنّ.
وإن تنوعت أساليبي أحيانا فلأن اللغة عندي مادة خام، أقدّ منها للصغار دمية أو لعبة، وأصنع منها للكبار منحوتة تحمل بصماتي. فأما ما يقوم من تلك الأجناس على السرد والوصف والحبكة، فهو يتمم بعضه بعضا، ترفده دون شك مستجدات الترجمة من جهة الصور الشعرية والبلاغية وتقنيات الكتابة وتسمية الأشياء بأسمائها. وأمّا ما كانت وجهته المجلات والصحف السيارة، فينهض على الوضوح والاقتصاد في العبارة لأن الغاية هي تبليغ فكرة، أو طرح قضية، أو إبداء رأي في مسألة. وفي هذا الجانب تجربة ثرية لا محالة، ولكنها مرهقة، تلتهم وقتي ونصيب الإبداع لديّ.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى