تحولات الأمكنة في ظِل تغيرات المجتمع المصري

محمد عبد الرحيم

أقام الفنان رضا عبدالسلام أستاذ التصوير في كلية الفنون الجميلة في القاهرة معرضه الشخصي رقم 40 في غاليري بيكاسو للفنون، الذي يأتي بعنوان «روح الأمكنة». ومن خلال رؤية بصرية مكثفة يحاول عبدالسلام استحضار المكان وتفاصيله عبر مخزونه البصري، وفي شكل مغاير لمألوف المكان كما تراه عين المُشاهد. لوحات المعرض تعتبر أعمالاً مُنتقاة تم تنفذها خلال الفترة ما بين عام 1988 وحتى عام 2014. وربما حاول الفنان أن يقدم حالة إيقاعية واحدة رغم كل هذه السنوات لرصد التغيرات التي طالت الأماكن التي يجسدها في لوحاته، والتي بالطبع لا تخرج عن الانعكاس الاجتماعي والسياسي لروح الشخوص التي تلونت بها هذه الأماكن في الأساس.
الفنان رضا عبدالسلام مواليد عام 1947، شارك في العديد من المعارض المحلية والدولية، منها صالون مصر 2010، بينالي هافانا الدولي 2010. شارك برسوماته الصحافية في كل من جريدة «الأهرام» ومجلة «المصور» المصرية، من عام 1976 وحتى عام 2006. كما أصدر عدة مؤلفات في الفن، منها «الرسم المصري المعاصر»، «الرسوم التحضيرية وعلاقاتها بلوحات مصطفى أحمد»، إضافة إلى العديد من الدراسات عن الفن التشكيلي المصري.

الكولاج الزمني

من الجائز أن نطلق تعبير (الكولاج الزمني) على أغلبية لوحات المعرض، بحيث يبدو المكان كخلفية يتم من خلالها سرد عدة أحداث وتحولات زمنية، فعل الزمن هو الملمح الأساس في كل لوحة من اللوحات، وبغض النظر عن المكان والفضاء الذي يعيد الفنان تشكيله وفق هواه ومخيلته البصرية، بحيث بالكاد من الممكن أن نتعرف هذا المكان ونحاول إقامة شيء من الصلة بينه وبين الواقع. لكن هنا ينتفي الواقع تماماً أو الأشكال التي توحي به ــ لا يوجد واقع في الواقع ــ حالة الانتفاء هذه يؤكدها الفنان من خلال اللون والخطوط وشكل المنظور. هنا نجد الإيحاء بوجود المعبد الفرعوني، سواء من خلال رسم للنقوش المعهودة، أو تكوين جسدي يُشبه تكوينات الجداريات الفرعونية، إضافة إلى إشارة رمزية لزمن آخر، كالهلال مثلاً، الذي يرمز في المخيلة الجمعية إلى العصر الإسلامي. فعل الزمن هذا يُصر عليه الفنان ويجعله يتمثل في الملابس المختلفة لبعض الشخوص القليلة التي ظهرت في اللوحات، ومع التحويرات والحالة النفسية للشخصية يمكننا أن نلحظ حالة المكان.

الشخوص والأماكن

ومن طبيعة الشخصية وزمنها الذي تعبّر عنه تأتي حالة المكان، يعقد رضا عبد السلام المقارنة بين امرأتين أولاهما ترتدي ما يُشبه الزي الفرعوني ــ لم يكن بطريقة مباشرة، فهو حداثي لأقصى حد ــ وليبدو الفضاء الذي يحتويها مكاناً أكثر بهجة، سواء على مستوى الألوان والحركة الجسدية، على العكس من المرأة المنتقبة في لقطة أخرى، هنا تبدو في عمق اللوحة أكثر، واللون الأسود هو المسيطر، كما أن تفاصيل المكان تُظهر المرأة وكأنها تسير في بطء داخل عتمة تمتد طويلاً. التباين اللوني أيضاً يخلق حالة المكان وروحه، كاللون الداكن للعديد من الألوان الباردة، لا توجد ألوان حارة كما في المرأة المبتسمة التي تجمع ما بين الحضارة المصرية القديمة والشكل الحداثي، سواء في الملابس أو الأكسسوارات والوضع الجسدي داخل كادر اللوحة.
لم يعتمد الفنان رضا عبد السلام على المكان في لقطات عامة، لكنه قد يوحي من خلال تفصيلة صغيرة لشكل أيقوني أقرب إلى الشكل الهندسي من خلال الخطوط الحادة، كشكل الفانوس القديم والشمعة التي يتراقص نورها، الفانوس وطقس شهر رمضان المرتبط به، يعود إلى زمن فائت لم يعد إلا من خلال ذاكرة الفنان. وإن كان الطقس الديني المرتبط بالشهر المقدس في الإسلام، يستدعي شكلاً آخر لطقس الصلاة، الجسد هنا في حالة سجود، واللمحة المباشرة للرائي تستدعي السجود في الإسلام، لكن التعمق في تفاصيل حركة الجسد، تكشف أصله الفرعوني، فحالة الطقس تمتد من لحظة قديمة استمرت ولم تنته كما يظن البعض.

الخطوط والصخب اللوني

عصور عدة تجمعها اللوحة الواحدة، وتغيرات حادة أصابت المجتمع المصري وشخوصه، وبالضرورة الأماكن التي تحيا من خلالها هذه الشخصيات. هذه الصدمات عبّر عنها الفنان في معظم اللوحات من خلال الخطوط الحادة ــ أقرب إلى الحركة التكعيبية ــ التي لا توحي بأي لحظة من لحظات الهدوء، حالة التوتر الدائم هذه تؤكدها حالة الزخم اللوني، فلا توجد لوحة إلا وألوانها المُشبّعة تماماً تتداخل في ما يقترب من العنف، بخلاف لوحة الصلاة واللون الأخضر المسيطر عليها، ومصادر الإضاءة أعلى اللوحة، التي توحي بحالة من الاتزان النفسي والمتسق وحالة السجود.
الملمح الأخير في معرض الفنان رضا عبد السلام هو المقارنة الدائمة ما بين أماكن كانت وأصبحت، ما بين تفاصيل مكان تحتفظ بها ذاكرة الفنان، وحال المكان كما يلحظه الآن، هذه المفارقة الدائمة هي النغمة السائدة في اللوحات ككل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى