رسائل بين الجلاد والضحية عن معنى الاستقلال

علا الشيخ

عندما تقرر أن تشاهد فيلماً جزائرياً، بخاصة إذا كنت مشرقي المنبت، سيقف حاجز اللهجة بينك وبين ما ستشاهده، ولكنك إذا قررت التركيز ومحاولة فهم المشهد بصرياً على الأقل، ستدرك أنك أمام سينما جديرة بالمشاهدة، بخاصة إذا ما تم تقديمها من مخرجين يحترمون ذائقة المتلقي ويقدمون له صورةً ستعلق بذهنه لوقت طويل.
لا شك في أن موضوع الثورة الجزائرية والاستقلال ما زال مثيراً لكثيرين من المخرجين، بخاصة المقيمن في الجزائر، لكن هذه المرة جاء موضوع الاستقلال مع فيلم «وقائع قريتي» للمخرج الهولندي كريم طرايدية من أصول جزائرية، ليحكي الثورة بمنظور مختلف، على عكس ما توقعه من اعتقد أن عنوان الفيلم سيكون أقرب بحكايته إلى عنوان «وقائع سنوات الجمر» لصاحب أول سعفة ذهبية لفيلم عربي في مهرجان كان الأخضر حمينا.
تم إنتاج فيلم «وقائع قريتي» وهو من تأليف المخرج نفسه، من مؤسسات جزائرية حكومية عدة، وعرض في الدورة الفائتة من مهرجن وهران السينمائي، وبنكهة غربية من الناحية البصرية تحديداً يأتي الفيلم الروائي الطويل الثالث لطرايدية بعد فيلميه «الصحفيون» و «العروســة البــولندية». ونستطيع القول إنه حقق عناصر فنية كفيلة بنجاحه، سواء من ناحية الإدارة واختيار الممثلين بخاصة الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان وهي بحد ذاتها حكاية. ولن نبالغ إذا قلنا إن حضورها أعطى قوةً للفيلم كانت كفيلةً بأن تجعل المرء يشاهد أحداثه كلها بمتعة وترقب.

طفل جديد
يدور الفيلم حول الطفل بشير، الذي يعيش في إحدى قرى الجزائر، هذا الطفل الذي يدرس في مدرسة فرنسية، نتيجة الاستعمار ويتلقى طريقة التربية الفرنسية، ويكافأ على نظافته ورائحة البودرة التي أعجبت بها زوجة حاكم المنطقة وأهدته موزتين وقبلة. بشير بشكله الجميل والمرتب، وإتقانه اللغة الفرنسية بحرفية، هو مثار حديث أبناء قريته ومحطة لتساؤلاتهم، وتحديداً مع الشخصية التي تعتبر محورية في الفيلم تشيشا، الذي يحلم بامتلاك دجاجتين كي ينفذ وصية والده، ومن خلالهما يتاجر بالبيض، وبعدها يشتري بقرة. هو كثير الأسئلة لبشير بخاصة حول حساب النقود وكم لديه من وقت ليوفر المبلغ الذي سيحقق من خلاله تجاراته وحلم أبيه، لتكون إجابة بشير «الاستقلال هو الذي سيحقق غايتك». تشيشا الرجل البسيط الذي لا يفهم معنى الاستقلال، ويعتبره كائناً ماراً مثل ما حدث معه مع قصة الراهب الذي ظهر عليه فجأةً، وتحدث معه باللهجة الجزائرية بأن يطلب ما يتمنى ليحققه له فوراً، لكن تشيشا خاف منه ولم يطلب شيئاً، هذا المشهد تحديداً كان حضوره ذكياً وفيه إسقاطات كثيرة على معنى الاستقلال وما آل إليه، بخاصة لفئة الشعوب المسحوقة.
السؤال عن معنى الاستقلال هو محور حكاية الفيلم والإجابة عنه سنجدها في وجوه حاضرة بقوة وفي وجوه عابرة، لكن هذا العبور كان ضرورةً درامية لتكتمل لملمة خيوط الحبكة، التي تظهر في شكل جلي في علاقة بشير مع صديقه الجندي الفرنسي فرانسوا.
بشير لا يخرج من أي مشهد تقريباً، هو حاضر في كل ما يحيط بالقرية من بشر وشجر وبحر، وكأن بشير أشبه بحالة حلم الغالبية بمستقبل جزائري صرف، شخصيته المركبة بين إعجابه بأبيه البطل الذي غادرهم تاركاً أمه مع أربعة أبناء (مثلت دورها بجدارة موني بوعلام)، وخال شبه مقعد، قدم مشاهد مهمة ومعبره كثيرة أثناء الفيلم، مثل مشهد جمعه مع بشير في محاولة تعليمة الخيال عن طريق رغيف خبز فارغ يمسكه بين يديه ويقف أمام محال لبيع الكباب، ويقول له «اغمض عينيك وتخيل الرائحة وكل»، وشخصية الجدة التي يكفي أن تنظر إلى عينيها لتختصر حكاية ثورة بأكملها، فقد استطاعت التونسية فاطمة بن سعيدان أن تمزج كعادتها بين الأداء المسرحي والسينمائي، من خلال لغة جسدها وتعابير وجهها وصوتها ونشيجه، فهي عملياً صاحبة أقوى المشاهد، مثل مشهدها وهي تبول على تاجر فراخ عندما قررت سرقة دجاجة من حظيرته للتقرب من مزار أملاً بشفاء حفيدها شقيق بشير، بالت على التاجر ودعت من كل قلبها «انشاء الله ريحة نتانتي تظل معك 10 سنين». هذا المشهد يعبر عن كل أنواع القهر والإحباط وغياب الأمل، إضافةً إلى شخصية الأب الغائب، والتي تدرك أنه مقاوم من مشهد واحد، على رغم تنصله من مسؤولية أبنائه الأربعة وزوجته، حكايته ليس عابرة بل هي جزء من المقارنة بينه وبين الجندي الفرنسي فرانسوا صديق بشير، وهذه هي الناحية الأخرى من شخصة بشير الازدواجية في المشاعر، وكأن الحال هو العلاقة بين الوطن عندما كان مستعمراً من قبل الفرنسيين، وحال الوطن بعد الاستقلال عنهم.
فعلاقة بشير الوطيدة مع الجندي الفرنسي الذي يستعين بوالدة بشير كي تغسل ملابسه مقابل النقود، والذي يظهر في شكل إنساني مغاير عما يظهر فيه أقرانه من الجنود الفرنسيينن هو توظيف جديد لمحاولة البحث عن مصطلح أنسنة الجلاد، الذي جعل من طفل كبشير يحلم بالاستقلال بالرغم من إيقاع حياته الفرنسية السلوك، فيكون منفصماً بمشاعره، فهو مع شعبه في حلمهم وهو مع فرانسوا الذي عوقب حين سرق بشير مسدسه وتم ترحيله إلى فرنسا، لتبدأ العلاقة بينهما على شكل رسائل، مع جملة «صديقي العدو فرانكو»، وتأتي الإجابات برسالة من فرانكو «نعم أنا عدوك يا صديقي الضحية». وعلى هذا المنوال وبعيداً من أجواء القرية يكتب بشير رسائله في الوقت الذي بدأت فيه علامات الاستقلال بالاقتراب، فيأخذ بشير رسالة فرانسوا التي تحمل صورةً تجمعه معه مؤكداً فيها أنه عدوه، ويمزق الصورة إلى نصفين.

يا للتوقّعات!
جاء الاستقلال، وعمّ الفرح أهالي القرية، وظهر تشيشا يبحث عن الاستقلال بين الحشود الكثيرة، متوقعاً أن يكون الاستقلال على شكل بيت وحظيرة يربي بها بقراته ودجاجاته، وفي مشهد يقف فيه المقاومون بعد رفع علم الجزائر أمام تلك الحشود من سكان القرية الذين بدأوا يهتفون تارةً لأحمد بن بلة وطوراً لهواري بومدين، فيجيب أحد رئيس المقاومين في المنطقة: «لا تهتفوا للأسماء»، مؤكداً بصوت خفي ما معناه أنهم لم يحدووا بوصلتهم بعد، فيخرج أحد المقاومين ويقترح عليه أن يأمر الناس أن يهتفوا فقط للجزائر، فتعلو الأصوات، ويرفع على الأكتاف أناس ليس لهم علاقة بالثورة، كابن أحد عملاء الجيش الفرنسي، لتنتقل الكاميرا إلى وجه بشير وهو مصدوم يشاهد خاله وقد مات على حضن جدته، وكان هذا المشهد بحد ذاته الإجابة عن معنى الاستقلال وفق رؤية المخرج.
لا شك في أن السينما الجزائرية والمغاربية في شكل عام مظلومة من ناحية الانتشار عربياً على الأقل، وهنا نقصد بالانتشار ليس العرض في مهرجانات سينمائية بل في دور عرض تجارية. ويعزى ذلك إلى أمور كثيرة ليس أولها اللهجة غير المفهومة لكثير من المشرقيين والخليجيين، وليس آخرها سيطرة بعض شركات إنتاج الأفلام على التوزيع، كما يحدث مع غالبية الأفلام التي تنتجها مؤسسة المجاهدين التي تعنى بدعم الأفلام التي تحاكي الثورة الجزائرية، مثل فيلم «لطفي» للمخرج أحمد راشدي، والذي عرض في دورة مهرجان وهران العام الفائت، ولم يلق انتشاراً عربياً، فاكتفت الجهة الداعمة له بعرضه في بعض الصالات الجزائرية.
وعلى رغم أن غالبية الأفلام الجزائرية عالقة بماضي الثورة، والاستقلال، إلا أن بعض المخرجين الجزائريين حاولوا أن يخرجوا من هذه الدائرة وقدموا أفلاماً تحاكي معاناة الشعب الجزائري بعيداً من الحقبة الزمنية التي تحيط بالثورة الجزائرية، مثل أفلام مرزاق علواش، الذي قدم العام الفائت فيلم «مدام كوراج» الذي من السهل تصنيفه أنه من أهم الأفلام الجزائرية التي قدمت في الأعوام العشرة الفائتة. ومثل هذا النوع من الأفلام الذي يحاكي الواقع والحاضر الفيلم الطويل «الدليل» للمخرج عمر حكار، وفيلم «راني ميت» للمخرج ياسين محمد بن الحاج.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى