“سونيتا” .. أجنحة الحرية

قيس قاسم

في نقل المخرجة الإيرانية “روخساره قايم مغامي” قصة مغنية “الراب” الأفغانية “سونيتا” إلى السينما أشياء كثيرة خارج المألوف، من بين أكثرها إثارة للأسئلة؛ موقفها الشخصي منها وتدخلها في اللحظات الحاسمة في حياتها ما يعدّ خرقاً لقواعد العمل الوثائقي فيما يتعلق بالحفاظ على المسافة الكافية بين صانع الفيلم وموضوعه وبخاصة عند رسم الـ”بورتريه” الشخصي، لما فيه من حساسية عالية كونه يتعامل مباشرة مع بشر وليس مع أشياء جامدة، لكن المتابع لتطور الفيلم الوثائقي خلال العقود الأخيرة يُلاحظ “تجاوزاً” متعمداً لهذه النقطة وقبولاً أكاديمياً ونقدياً لها بشرط أن تأتي في سياق منطقي يبررها.

الاستثناء الآخر يتمثل في متابعة مشروع سينمائي لحياة فنانة لم تنضج بعد ولم تدخل عالم الفن، حين شرعت المخرجة في تسجيل جانب من حياتها، ما يعدّ رهاناً قابلاً للفشل، فلا ضمانة في الظروف التي عاشت فيها المراهقة الأفغانية “سونيتا علي زاده” كمهاجرة في إيران من نجاحها ولا من إمكانية دخولها إلى عالم الموسيقى أصلاً، أما على المستوى الفني فجزء كبير من الفيلم صنعته الأفعانية بنفسها، وفي مرات غير قليلة وقفت هي وراء الكاميرا وقامت بتشكيل المشاهد، ما أعطى الفيلم حيوية وخصوصية رفعت مستواه وكانت ربما أحد أسباب نجاحه واحتفاء مهرجانات كثيرة به، بعضها منحه جوائز قيمة كـ”ساندانس” و”إدفا”.

“سونيتا” فيلم طريق إيراني ألماني مشترك، مرّ بأفغانستان فطهران حتى وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وما تعدد مستوياته فنياً ودرامياً إلا نتيجة لمساره والظروف الخاصة بكل منطقة اشتغل فيها.
ففي أفغانستان كانت حركته محدودة خوفاً من تعرض فريق العمل للمخاطر، في حين أخذ مساحته الأكبر وحريته في طهران وبشكل غير مباشر دخل في تفاصيل مشهدها الاجتماعي والسياسي، فيما كان مروره بالولايات المتحدة سريعاً، ختامياً. مساحات كبيرة كان على مراهقة غريبة السير فوقها ومواجهة صعاب غير قليلة في قسم منها، تحملّتها وتجاوزتها بفضل ما تمتعت به من قوة داخلية، أعانتها على تحقيق حلمها في أن تصبح مغنية “راب” بل أول مغنية لهذا النوع من الغناء في بلدها، لتقف بالضد من قيم وأعراف مجتمعية ليس من السهل على فتاة تجاوزها، وانطلاقاً من تلك الخصوصية قررت المخرجة الإيرانية ملازمتها وكشف روحها التواقة للحرية والتميّز.
في المشهد الأول، وبعد لحظات على تسجيل تفاصيل صغيرة من حياة “سونيتا” مع أختها وابنتها في منزل بسيط في طهران، نُصدم بصعوبة ظروفهم، حين نرى صاحب المنزل يداهمهم ويطالبهم بالخروج منه لتأخرهم في دفع إيجاره الشهري. ولكون وجودها غير شرعي ودخولها مع عائلتها البلاد تهريباً عبر الحدود، لم تحصل على الأوراق الرسمية اللازمة للحصول على عمل وسكن ومع ذلك قبل أحد مراكز رعاية أطفال الشوارع ضمّها إليه ووفرّ لها فرصة عمل داخله. كان عوناً حقيقياً لها وكانت مديرته تتمتع بقلب طيب.

بين حياتها خارج المركز وداخله تحرّك الوثائقي وسجّل تفاصيل عيشها، وهي لم تبلغ سن الرشد بعد. كان خيالها جامحاً وعقلها متوقداً، شجاعة بالفطرة، تتجاوز العادي بروح التحدي مع انضباط واحترام للوسط الذي تعيش فيه. شخصية بدت منذ اللحظة الأولى لوقوفها أمام الكاميرا قوية تعرف ماذا تريد وتتحرك بكل ما تملك لتحقيقه. أرادت أن تصبح مغنية ومؤلفة أغاني “راب” مشهورة. مشاهداتها لمطربين مشهورين على شاشة التلفزيون أبهرها، فراحت تقلدهم وتكتب كلمات أغاني لنفسها تعبر عن حالتها النفسية وتشرح الظروف السيئة التي تعيش فيها.

كان أكثر ما يُخيفها هو “بيعها” عن طريق الزواج لرجل يكبرها سناً، كما هو حال الكثير من الفتيات الأفغانيات. رفضت فكرة بيع الصبايا مقابل المال وكتبت أولى أغنياتها عنها، قبلها كانت تجمع في دفترها المدرسي صور المشاهير وتضع صورتها (الوجه) فوق وجهوهم، تسمي نفسها “سونيتا جاكسون”، وتدّعي أن اسم والدها “مايكل جاكسون”، تعويضاً عن نقص أوراق ثبوتها الشخصية، التي تركها أهلها في أفغانستان، فصارت وفق القانون لا وجود لها في البلاد الغريبة.
في المركز وفي أوقات النشاط الحر شكلت لوحدها مشاهد مسرحية صامتة “بانتومايم” جسدت هروبهم من الحرب الأهلية والمخاطر التي تعرضوا لها خلال عبورهم الحدود. كلامها مع الفتيات كشف جوانب من مشاكلهن الاجتماعية، وتقييد حريتهن في اختيار الانسان الذي يرغبن مشاركته الحياة سوية.

كان موضوع “بيع” الفتيات يتسع فيأخذ في أحاديثهن أبعاداً اجتماعية واقتصادية. فضيق ذات اليد يدفع الآباء لاستبدال بناتهم بالمال. صعوبة الظروف وانتشار العنف والبطالة تدفعهم لمثل ذلك السلوك، في المقابل تجد الفتيات أنفسهن في وضع لا يحسدن عليه. عن كل ذلك عبرت أغانيها وكانت الفتيات يعجبن بها، لأنها كانت تقول كلاماً يعجزن عن قوله صراحة.
موهبة نقل الأفكار والأحاسيس عبر الكلمات والأغاني ستسعى لتحويلها إلى فعل، فنراها لذلك تنتقل من مكان إلى آخر ومن شركة إلى شركة بحثاً عن ممول يعينها على تسجيل أغانيها، وفي مرات وجدت مساعدة من أمثالها الفنانيين الإيرانيين الذين لم يبخلوا عليها بالنصيحة لتطوير موهبتها. وجودها في طهران حتى لحظة نشرها أغنية “عرائس للبيع” على “اليوتيوب” وثّق جانباً شخصياً من حياتها، بعدها ستتوسع دائرة بحثه لتشمل العائلة ورحلة نجاحها.
خوفها الذي كان سبباً في هروبها من بلدها عاد بعودة والدتها وعرض فكرة تزويجها لرجل عجوز مقابل مبلغ من المال يريد أخوها تزويج نفسه به. أصابها الرعب وراحت تخطط للتخلص من ورطتها عبر تأمين مبلغ تُسكت به أمها وأخاها. طلبت من المركز المساعدة ولم تجدها، فقررت الهرب.
بدون وعي، على الأرجح، أحرجت صناع الوثائقي فعدم إكمال التصوير يعني نهاية المشروع وفشله فقررت مخرجته التدخل شخصياً ودفع مبلغ من المال لعائلتها مقابل استمرارها في التصوير لمدة ستة أشهر.
مرحلة مجيء الأم إلى طهران حتى مغادرتها سلطت الضوء على جوانب من حياة الأفغان في بلدهم وفي المهجر، حيث فرص العيش ضيقة والإمكانات شبه معدومة فتصبح “الحيلة” وسيلة للتخلص من مراراتها.
أدركت “سونيتا” كل ذلك وعملت على كتابة نصوص متسامحة مع الضعيف ومتشددة مع الأعراف المكبلة لأيدي الجميع، وجدت مواقفها المُجَسدة بأغنيات “راب” بسيطة الإنتاج عميقة المعاني عند أطراف خارج الدائرة المحلية اهتماماً فجاء عرض مؤسسة تعليمية خيرية أمريكية لها ضمن هذا السياق. قدموا لها فرصة دخول دورات تعليم الموسيقى لأكثر من عامين مجاناً.

لم تفكر الشابة الطموحة بتضييع الفرصة النادرة، لكن الأمر لم يكن سهلاً لأنها بدون أوراق ثبوتية وللحصول على جواز سفر أفغاني كان عليها السفر والعودة ثانية إلى المكان الذي هربت منه.
يدخل الوثائقي في مرحلة جديدة أكثر عمقاً على المستوى الشخصي وأوسع على المستوى السياسي الاجتماعي وإن لم يرغب في إقحام نفسه في السياسي كثيراً.
حرص طيلة الوقت على أن يُبقي حركته محصورة بالمغنية الموهوبة وألا يذهب إلى تخوم مشاكل أخرى، لكن وضعها جرّه إليها، فكان دخوله أفغانستان دخولاً إلى مكان لا يمكن تجاهل ما يجري فيه.

سجل حركتها الحذرة ومراجعاتها لدوائر الدولة. تفاصيل دخولها الفندق، الذي تحول إلى سجن محاط بأسوار لشدة حراسته. علاقاتها بأهلها اكتنفها الحذر، خوفاً من معرفتهم توجهها الحقيقي نحو الخارج. مع قصر المدة قدم الوثائقي صورة عن كابول وأحوالها وعن حال النساء فيها. سجلّها بروح موضوعية غير متحاملة فجاء واقعياً خالياً من الكليشيهات التي غلبت على أفلام وثائقية أخرى حاولت نقل الحياة اليومية للمدينة من موقع متعالٍ.
في المرحلتين الإيرانية والأفغانية كانت الكاميرا ثابتة وثاقبة النظر إلى كل ما حولها. الصورة والمشاهد جميلة عفوية، ترصد التفاصيل وتسجل الأحاديث الأكثر أهمية فجاء العمل على المستويين الحكائي والسردي مقنعاً خالياً من الزيادات، على عكس المشهد الأمريكي الذي ظهر باهتاً وردياً.

صحيح أن “سونيتا” وجدت فرصتها الذهبية هناك وربما انطلاقتها نحو آفاق أرحب في حقل الغناء، لكننا لم نتعرف على الجوانب الأخرى من العلاقة الجديدة، مثل تعامل الناس العاديين معها لأن مخرجته اكتفت بنقل الظاهر فحسب، وإن لم يخلُ من لمسة ذكية تجسدت بتسجيلها مكالمة هاتفية جرت بين الشابة وأمها وخوف الأخيرة من طول المدة التي ستقضيها ابنتها في الخارج!
مخاوف أيقظت أسئلة عند مغنية “الراب” الشجاعة حول وجودها في المكان الجديد ومآلات حياتها القادمة. أيقظت مشاعر دفينة وذكريات لم تغب عن بعض أغنياتها، ولا في كلامها أمام كاميرا “روخساره قايم مغامي” المتعاطفة معها، والشديدة القناعة بأن “سونيتا” قادرة لوحدها على تسجيل بقية رحلتها، التي بدأت من بلدها الموجوع بالحروب وهي طفلة حتى وصلت إلى الطرف الثاني من الكرة الأرضية، شابة يافعة!

(الجزيرة الوثائقي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى