رحيل نعمات أحمد فؤاد نموذج وعي المرأة المصرية

محمد عبد الرحيم

«شيء كبير أن يكون للإنسان قلم ولكن شيئا نفيسا أن يكون للإنسان موقف، ومن نعم الله عليّ أن وهبني الكلمة والقرار، أعني القدرة على الاختيار الصعب، فعرفت المواقف، وتحملت في سبيل مواقفي الكثير وعلوت على الإغراءات والعروض والمناصب والبريق، فأعز منها جميـــعا تراب هذا البلد كل ذرة من هذا التراب». هكذا تقول الكاتبـــــة نعمات أحمد فؤاد (1926 ــ 2016) التي أحبّت مصر وناضلت في سبيلها بكل ما امتلكت من وقت وجهد وثقة في هذا البلد قبل كل شيء.
وقبل استعراض ما أنجزته الراحلة والمعارك التي خاضتها ضد السلطة السياسية وقراراتها المعيبة، لابد من عقد مقارنة بسيطة بين دور المرأة ذات التكوين الثقافي الراسخ والمعتقد الوطني الأرسخ، ودور الأصوات الصاخبة حد الإزعاج، الفارق في لحظتنا الراهنة يتجلى بين صخب مناضلات الفضائيات وامرأة آمنت بدورها الحقيقي في المجال العام، وألا يكون الكاتب فقط أسير أفكار هائمة أو يحيا في عزلة الترفع الموهوم. الأمر أيضا جدير بالمقارنة بين الكتّاب والصحافيين من عَبَدَة النظام والمهللين له في كل شيء، وبين امرأة احترمت عقلها ووعيها ومن قبل ومن بعد الوطن الذي عاشت في ظِله.

الوعي والفكر المتحفظ

ما يثير الدهشة في أعمال ومواقف الكاتبة نعمات أحمد فؤاد، أنها خلقت شكلا من التوازن ما بين حرية الوعي والفكر المتحفظ الذي كانت تعتنقه، فالخلفية الدينية التي تأسست عليها ثقافيا وروحيا ونفسيا في الأساس لم تقف حائلا بين ما تفاعلت معه من موضوعات ومشكلات اجتماعية، ورغم هذه النظرة الرديكالية إلا أنها آمنت بدورها ولم تختف خلف تأويلات وخزعبلات دينية. المفارقة قائمة دوما بين عصر انقضى وعصر نحياه الآن، عصر التفاهة. حتى لو تغاضينا عن بعض أفكار الراحلة، خاصة إذا ما تعلقت بالشأن الإسلامي، ومحاولة تأويله اجتماعيا، فتقول على سبيل المثال «إذا ضممنا آيات الشورى في القرآن إلى آيات المجادلة الحسنة، فإننا نلمح حض القرآن على وجوب دور الرأي العام، وأن الرأي العام له رقابة نفسية، بمعنى أنه إذا صلح هذب الآحاد والجموع وإذا فسد وتقاعس فسد المجتمع، ووسيلة المجتمع لإيجاد مجتمع فاضل هو الحياء والاستتار، فالحياء قيد اجتماعي، والاستتار حصر للشر». ونحن نعلم أن مسألة الشورى اقتصرت على صفوة المجتمع الإسلامي وقتها، وكانت تناسب الفكر والتكوين القَبَلي، لا الدولة في شكلها الحديث، وفقط يناسب الدول الاستبدادية التي تعتمد على قِلة حاكمة أو مُساندة للحكم القائم.

في سبيل مصر

«لم أختر يوما معركتي بل كانت معاركي هي التي تختارني، ولم أظن أنني في يوم ما سأخوض أي معركة». عدة معارك خاضتها الراحلة، من دون أن يجرؤ وقتها أن يتكلم أحد، بل كانوا من مدمني السمع والطاعة والتهليل والتهويل. سواء في عصري السادات أو مبارك، إلا أنه من الملاحظ أن السادات كان يحترم القانون ولو بقدر ما، أما مبارك المخلوع وعصبته فالأمر مختلف.

هضبة الأهرام

تقول نعمات أحمد فؤاد، كانت البداية في منتصف السبعينيات عندما أرسل لي أحد طلابي حينما كان مبتعثا في كندا، مجلة كندية على غلافها صورة لرجل على هيئة صقر يفرد جناحيه على الأهرامات، وعنوان الغلاف «عودة بيتر مونك» بينما تروي صفحات المجلة من الداخل كارثة بيع عشرة آلاف فدان من هضبة الأهرامات لهذا المستثمر الكندي مقابل نحو 2 مليون دولار، بالمشاركة مع شركة مصر لتنمية السياحة، وهو رجل كما قالت المجلة سبق طرده من إحدى الولايات الكندية وتغريمه مبلغا طائلا لخداعه لهم.
جن جنوني حين علمت الخبر وسألت عن الشركة وعنوانها وتتبعت أساس الموضوع ووجدت أن صحيفة «التايمز» أطلقت صيحة في عام 1975 لحماية الأهرامات وهضبتها من تلك الصفقة، أي قبل معرفتنا بهذه الكارثة بنحو عامين، تأكدت من المعلومات التي جمعتها وبدأت معركتي بمقال في جريدة «الأهرام» نشر بتاريخ السابع من يوليو/تموز 1977 كان بعنوان «مدينة سياحية عند الهرم»، ثم مقال آخر في الثالث عشر من يوليو من العام نفسه، بعنوان «ارفعــــوا أيديكم عن هضبة الأهرام»، أكدت فيه أن الهضبة ليست ملكا لوزارة أو نظام أو لشركة، ولكنها ملك للهرم والتاريخ والحضــــارة الإنسانــــية، مشيرة إلى أن المصريين يعيشون على عنصرين النيل الذي يطعم ويسقي، والهرم الذي يشـــــد إليه الرحال من كل بلاد الدنيا فيعطي لمصر المال والقيــــمة الحضــــارية، واختتمتُ المقال بـ»أن الآثار أعراضــنا فابقوا لنا الماضي.. إبقوا لنا شيئا». وقامت برفع قضية ضد رئيس الدولة، وحكمت المحكمة لصالحها، وألغت قرار رئيس الدولة.

النفايات الذرية

المعركة الأخرى التي خاضتها تتمثل في محاولة دفن النفايات الذرية الآتية من النمسا في مصر، كان ذلك عام 1978، تقول «وقعت تحت يدي بنود الاتفاقية فوجدتها تشوبها حالة من الغموض والتنازلات من الجانب المصري بلا أي مقابل، وكأنه من دواعي سرورنا وإحساسنا بالمكانة الدولية أن نتقبل نفايات النمسا الذرية، بينما تدل القراءة الجيدة للاتفاقية على أن بنودها لا تعدو إلا أن تكون تأجيرا لبعض الأراضي المصرية لصالح الطرف النمساوي.. وصل الأمر للرأي العام في النمسا، حتى فوجئت في أحد الأيام بسفير النمسا في القاهـــرة يأتي لزيارتي في منزلي مقدما اعتذار بلاده، ومؤكدا عدم المضي في المشروع من قبل حكومته».
المعركة الوحيدة التي خسرتها نعمات أحمد فؤاد، كانت في عهد المخلوع، وكانت ضد وزير الثقافة وقتها فاروق حسني، حيث اعترضت على ما يقيمه من معارض للآثار المصرية خارج مصر، مؤكدة أن في سفر الآثار الكثير من الأخطار عليها، وأن على مَن يريد رؤية آثارنا المجيء إليها، وأنه لا توجد دولة في العالم تفعل ما نفعله مقابل حفنة من الجنيهات.
كتبت المرأة الكثـير والكـــثـــير في هذا الشـــأن، لكن من دون جدوى، هذا فارق وملمح أساس بين عصرين.
……..
ولدت نعمات أحمد فؤاد عام 1926 بمغاغة في محافظة المنيا، ثم انتقلت إلى حلوان في القاهرة لتلتحق بالمدرسة الثانوية الداخلية للبنات. تخرجت في كلية الآداب جامعة القاهرة ونالت درجة الماجستير في أدب عبد القادر المازني، وجاءت رسالتها للدكتوراه عن «النيل في الأدب العربي».
شغلت عدة مناصب مهمة من أهمها مديرة عامة للمجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، وأستاذة الدراسات العليا في جامعة حلوان لمادة فلسفة الحضارة، وأستاذة في المعهد الدولي للاقتصاد والبنوك الإسلامية التابع للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية. كما قامت بالتدريس في جامعات دول عديدة: اسطنبول، جامعة نيويورك، جامعة جورج تاون في واشنطن، جامعة طرابلس في ليبيا، وجامعة الأزهر الشريف، وأكاديمية الفنون في القاهرة.
فاز كتابها «إلى ابنتي» عام 1964 بجائزة اليونسكو كواحد من أفضل عشرة كتب على مستوى العالم في الأمومة، وتمت ترجمته إلى الإنكليزية. من مؤلفاتها «دراسة في أدب الرافعـــــي، أم كلثـــــوم وعصر من الفن، أدب المازني، الأخطل الصغـــير، ناجي الشاعر، إلى ابنتي، في بلادي الجميلة، النيـــــل في الأدب المصري، قمم أدبية، شخصية مصر، خصائص الشــــعر الحديث، النيل في الأدب الفني، أعيدوا كتابة التاريخ، الجمال والحرية الشــخصــــية في أدب العقاد، من عبقرية الإسلام، آفاق إسلامية، آفاق مصرية، الإسلام وإنسان العصر، القاهرة في حيــاتي، اللص والكلاب محنة البنوك المصرية، وصناعة الجهل»، إضافة إلى كتابة المقالات الصحافية في الصحف والدوريات المصرية والعربية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى