الكاتبة العراقية تبحث عن خصوصيتها كامرأة

 

صفاء ذياب

«سادتي لا أستطيع أن أكتب إلا كامرأة، بما أن لي شرف كوني امرأة»
في عام 1872، أعلنت الكاتبة جيني هيريكورت ملامح كتابة خاصة فيها كامرأة تدافع عن حقها في الوجود، إذ عدَّت ما تكتبه هي والكاتبات الأخريات يمتلك سمات لا يمكن للرجل الاقتراب منها، لتشكل بذلك أوّل صرخة من امرأة تسعى لتحديد آليات اشتغالها، وبنى تفكيرها، ومن ثمَّ لغتها الخاصة.
منذ ذلك الوقت، بدأ العمل على مفاهيم لم تكن موجودة سابقا، ومن أهمها الأدب النسوي، أو النسوية التي دخلت في مجالات الفلسفة والأدب، حتى بدأ منظرون ومنظرات بتحديد أهم ملامح هذا الأدب عالميا.. أما عربيا، فلم تكن هدى شعراوي أول المناديات بحرية المرأة، فقد رافقها بذلك أحمد أمين وغيرهما الكثير، غير أن الحديث عن خصوصية المرأة في الكتابة جاء متأخرا في بلداننا العربية، إلا أن الأمر بدأ يتسع، والتساؤلات شرعت بفتح أبوابها، إلى درجة إصدار كتب خاصة ومقالات تتحدث عن خصوصية المرأة وأسلوبها في الكتابة في كل بلد، نظرا لاختلاف العادات والقيم الاجتماعية.. فأين تكمن خصوصية الكتابة النسوية في العراق؟ وهل هناك فارق ملحوظ بينها وبين كتابة الرجل؟

أحساس الوجود

يقال إن المرأة تحكي والرجل يكتب! آن اﻵوان لكي تكتب المرأة وتسترد وجودها وتحقق ذاتها في الكتابة، وتبين قدرتها في اﻻختلاف ﻷن الكتابة شكل من أشكال تحقيق الذات، حسبما ترى الناقدة فاطمة بدر، مضيفة أن الكاتبة العراقية تميزت بخطاب متفرد ومتميز، فلم يعد نتاجها مكررا للرجل، وبذلك كسرت الرتابة التي سيطرت على ذائقة القارئ عندما تحدثت عن كل القضايا الإنسانية التي تهم المجتمع من سياسة واجتماع وفكر وحروب وهجرة وحصار وأزمة الإنسان والوجود بالبحث عن اليوتوبيا.. فضلا عن تصوير ذاتها المسلوبة والمقموعة من جهة، وتحديها لمجتمعها وتخلصها من التبعية والهيمنة الذكورية السائدة باسترداد ذاتها وتشكيل صورة مغايرة أسهمت في صنع قرارها بنفسها ودفاعها عن حقوقها قوﻻ وفعلا، وبذلك تحولت من الهامش إلى المركز بعدما ابتعدت عن الكتابة التقليدية الموجهة للرجل، وبعد أن تخلصت من العجز والشعور بالنقص الذي ﻻزمها فأنتجت فعلا إبداعيا متميزا.
وتبين بدر أن الكاتبة العراقية لم تختلف عن الرجل في الكتابة، بل في طريقة العرض وتوظيف الأشياء وتوصيفها عن طريق لغتها الأنثوية، فمثلا عندما تتحدث شخصياتها في الرواية تكون في الغالب بضمير المتكلم وتكثر من المونولوجات، لذا اختلط على الكثيرين التفريق في كتاباتها بين أنا الكاتب وأنا الراوي، ومن ثمَّ فإنها تركز على الشخصيات الأنثوية فتضعها في المتن، بينما يكون الرجل هامشيا ربما ﻷن المرأة تستطيع تصوير الدهاليز المعتمة النفسية لديها أكثر من الرجل.

الخصوصية العراقية

وفي متابعة خاصة من أستاذة النقد الأدبي في الجامعة الأمريكية في القاهرة، رشا غانم، تقول إن التاريخ العراقي الحديث والمعاصر على وجه الخصوص كان دائم الحضور في الذاكرة الشعرية التي حفلت بالكثير من الأحداث والثورات التي غيرت خريطة البلد السياسية وخريطة العالم العربي عموما، وانعكس صداها واضحا في مجمل النتاج الشعري، خاصة بالنسبة للشاعرات العراقيات، عادة المرأة هي الأقدر على التعبير عن مشاكلها وأوجاعها، فكيف إذا كان الوطن أتعبته آلام الحروب والحصار والقتل مما جعل الألم مضاعفا عليها، فما مرت به المرأة العراقية والمعاناة الشديدة التي عانتها، جعل الكتابة النسوية تعكس هذه الحالة بصدق وبحميمية أكثر. إذ نجد شعرا نسويا راصدا لكثير من الأحداث المتلاحقة في المجتمع العراقي الرافض للظلم والطغيان، حيث انعكست الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مضامين الشعر العراقي.
وتتراءى لغانم من خلال نماذج شعرية كثيرة لهن مهمة الذات الشاعرة التي تكشف عن خباياها من الخوف والقلق والضياع. فالمرأة التي نسعى لقراءة إبداعها ليست شاعرة تقليدية مهتمة بقضايا عامة أو رومانسية مشغولة بمحور ذاتها فقط، ولا واقعية تكرس كتاباتها نموذجا نقديا لسلبيات مجتمعها، إنها شاعرة حداثية تجاوزت هذه المراحل، وعايشت مرحلة الاغتراب المعاصرة، ومعاينة الأسئلة والهواجس الكبرى التي تؤرقها وتشعرها بالاغتراب عن الذات، والآخر، والاغتراب عن المكان، فنجد لها القدرة على التعبير عن خصوصية هذه التجارب الإبداعية وعلاقتها الواعية بالوطن.

كتابة الهم الإنساني

من جهتها ترفض الكاتبة منال الشيخ تسمية كل ما تكتبه المرأة بالكتابة النسوية، وتبدأ قولها في الحديث عما تكتبه المرأة وما يكتبه الرجل، وأن هناك كتابة نسوية تكتبها امرأة ويكتبها رجل على حد سواء، فلا يمكن أن نعتبر كل عمل تكتبتهُ امرأة هو كتابة نسوية، إذ إن هناك العديد من المؤلفات في مجال أدب الجرائم والخيال تكتبهُ نساء. وربما أشهر مثال لذلك هو أجاثا كريستي و ج. ك. رولينج مؤلفة أشهر سلسلة خيال في العالم «هاري بوتر». وفي العراق كما في العالم – بحسب الشيخ- ستجد كاتبات يكتبن الشِعر والقصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال. «في ظني أن الكاتبة العراقية قطعت شوطا جيدا لا بأس به في السنوات الأخيرة، مع التطور الهائل الحاصل في العالم على مستوى التواصل، إذ فيما مضى كانت الكاتبة تعيش في عزلة ما بسبب ظروف البلد، ومن كن يكتبن خارجه لم يكن يصلنا بسبب المنع… من الطبيعي جدا أن تكتب الكاتبة المرأة عن تجارب مرت بها أو مستها، حالها حال الكاتب الرجل، ومن الطبيعي أن تأتي هذه الكتابة ملمة نوعا ما بعالم المرأة أكثر، لأنهُ هذا هو عالمها». ونلاحظ في الفترة الأخيرة انحياز الكتابة إلى الهم الإنساني العام، بعيدا عن تخصيص مواضيع النسوية في العمل. فالظلم الذي يمر بهِ البلد منذ عقد ويزيد يضعنا جميعا أمام مسؤولية أخلاقية تجاه مآسٍ تطال الجميع من دون استثناء. فنرى معاناة رجل، امرأة، طفل وأشخاص كبار في السن في موضوعات الأعمال الأخيرة للكاتبات.
وترى الشيخ أن الحربُ والأزمات السياسية عاملان مهمان في إحداث تغيير في النمط الكتابي عموما وفي كتابة المرأة خاصة، لأنها في الغالب على تماس مباشر أكثر من الكاتب الرجل مع نتائج هذه المآسي بسبب تباين منسوب العاطفة بين الجنسين. الكاتبة العراقية أصبحت أكثر وعيا تجاه هذا التباين، ومن خلال متابعتها لبعض الأعمال، تجدها تعرفُ كيف تستخدم هذا التباين لصالح العمل إبداعيا، بعكس ما هو متوقع، ولهذا لا نستغرب فوز كاتبات عراقيات بجوائز مهمة في الآونة الأخيرة فيما لم يكن لها صيت كبير قبل هذه الفترة. «متفائلة بالحركة الأدبية عموما في العراق وبتوجه القلم «النسائي» خاصة، وهو ليس نسويا بالضرورة!».

لغة النساء

توجد كثير من التحفظات على تسمية الكتابة النسوية كونها، كما يبدو في الظاهر، تشكل تقسيما للنص الأدبي على أسس غير إبداعية، وهو ما تشير إليه الشاعرة دلال جويد، فنحن لا نجد مصطلح أدب رجولي أو ذكوري حاضرا في الطرح النقدي عموما، وقد عبرت الكثيرات من الكاتبات والشاعرات عن رفضهن لهذا المصطلح لأنهن يرين الإبداع إنسانيا ولا يجوز تقسيمه على أساس الجنس. ولكننا في الحقيقة ينبغي ألا نتجاهل الاختلاف العميق بين التكوين النفسي والعاطفي والعقلي للرجل والمرأة، الأمر الذي يظهر في الكتابة على مستوى اللغة والموضوعات وطريقة تناولها، وهذا ليس اختلافا تفاضليا بقدر ما هو تأكيد على الخصوصية لكل منهما والانفتاح على مناطق مختلفة في التعبير وتقديم الفكرة. لذا تفضل جويد التحدث عن الاختلاف الذي يتجاهله كثيرون، فالكاتبة والشاعرة العربية والعراقية خصوصا تواجه كثيرا من الاستخفاف والاستهجان الذكوري من الكتاب والشعراء والنقاد، إذ غالبا ما يتم تسطيح نص المرأة والتعامل معه بفوقية واستعلاء… الكتابة النسوية العراقية اليوم تظهر اختلافا وتميزا أكثر وضوحا قد لا يرضي الكاتب أو القارئ الرجل، لأنه لا يدور في فلكه ولا يتبع قوانينه الخاصة، فلا يبدو مفهوما له، سواء على مستوى الشعر أو الكتابة القصصية والروائية، على الرغم من أننا نعاني من قلة الأسماء النسائية وتباين مستوياتها، الأمر الذي يعود إلى أسباب مختلفة تعتقد جويد أن الظروف السياسية والدينية تأتي في مقدمتها، فالحروب والخراب السياسي والتسلط الديني انعكس بالنتيجة على الاقتصاد والمجتمع وحصلت المرأة العراقية منه على حصتها من البؤس كاملة، وتم تحجيمها وإبعادها عن الساحة الثقافية وقلّل من حظوظها في الثقافة والتعليم، وبالتالي التأثير في مجتمعها.
وهي ترى أنه في حال العودة الى ما هو موجود من أدب نسوي عراقي نستطيع ان نتبين وجود الرواية النسائية التي كتبتها المرأة وعبرت عن قضاياها وما هو مسكوت عنه في أدب الرجل. فعلى سبيل المثال تحدثت الكاتبة أمل بورتر في روايتها الأخيرة «البلابل لا تغني» عن حالة الانتقام التي تحصل بين النساء لأسباب دينية واجتماعية تتمثل باغتصاب النساء للمرأة المختلفة عنهن دينيا واجتماعيا تلك الوحيدة الضعيفة بينهن، وهو ما لم يتم التطرق إليه سابقا في الرواية العراقية، لذا «أعتقد أن المرأة الكاتبة تتناول ما يحدث خلف الأبواب المقفلة التي لا يلجها الرجل ولا تقع أحداثها تحت مرأى وعيه، فمعاناة النساء في الحروب وخوفهن وتعرضهن للخطر هو الأمر الذي يمكن أن تكتب عنه المرأة، في حين ينشغل الرجل الكاتب بالجنود في الحرب والثوار في الساحات لا بحبيباتهم أو أمهاتهم أو بناتهم».
المرأة الشاعرة أيضا تحررت من سطوة الجارية، واستطاعت أن ترسم علاقة متكافئة مع الرجل في التعبير عن مشاعر المرأة التي تختلف كليا عن تعبير الرجل عن العاطفة، لذا من الطبيعي أن يأتي النص الشعري النسوي مختلفا سواء على مستوى اللغة أو الفكرة أو الصورة، فضلا عن أن النصوص الشعرية النسائية نقلت لنا أصوات الأمهات في الحرب، خاصة أن العراق في حالة حرب مستمرة والأمهات هن أعظم الخاسرات.
جويد تبين أن المرأة الكاتبة أو الشاعرة استخدمت مفرداتها الأنثوية وتعابيرها بشكل مميز، ففي حياتنا اليومية العادية ولغتنا المحلية نستطيع التمييز بين لغة النساء ولغة الرجال، وقد صار هذا الأمر واضحا في النصوص النسوية، الأمر الذي تراه صحيا ويجعل المرأة تقترب من طبيعتها من دون أن تتخفى وراء لغة الرجل. وقد حضرت الأنوثة في عناوين كتب النساء فعلى مستوى الرواية تظهر الكثير من العناوين النسوية مثل «كاهنات معبد أور» لرسمية محيبس و«أميرة بابلية» لأمل بورتر و»الحفيدة الأمريكية» لأنعام كجه جي وحتى «طشاري» كون المفردة تمثل تعبيرا نسائيا محليا، ولا يمكن أن نغفل عناوين مجموعات الكاتبة لطفية الدليمي مثل «عالم النساء الوحيدات» و»برتقال سمية» ورواية «سيدات زحل»، إضافة إلى المجموعات الشعرية التي صدرت لشاعرات تميزن بصوتهن النسائي الواضح مثل مجموعة «متى ستعرف بأني فراشة» للشاعرة ريم قيس كبة، و«لأَنِّي فتاة» للشاعرة فليحة حسن، و»خيول ناعمة» للشاعرة راوية الشاعر وغيرها كثير، «لكنني أشرت إلى بعض العناوين التي تجلت فيها الثيمة الأنثوية بوضوح… ربما صار من الوضوح أن الكتابة النسوية لابد أن تكون لها خصوصيتها اللغوية والموضوعية بعيدا عن الحساسية من التسمية، إذ إن الدراسة الحقيقية والمنصفة لأدب المرأة ستساعد في رفع الوعي بطبيعة هذا الأدب، وبالتالي لا تثير حفيظة الأديبات من تلك التسمية، وأعتقد أن الدراسات الحديثة التي تناقش اختلاف المرأة عن الرجل على مستوى العلاقات العاطفية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في النظر إلى نتاج المرأة الأدبي وفهم ماهية اختلافه عن الكتابة الذكورية».

(القدس  العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى