الطفل المشرد للكاتب إمبروز بيرس…للكاتبة صفاء الزغول

خاص (الجسرة)

 

كان الأمر أشبه بالعجزة , أن ترى ذلك الصغير الذي تم إبعاده عن البلدة منذ زمن , واقفا في الشارع تحت المطر في إحدى ليالي الخريف الباردة وهو يحاول أن يلقي بالبرد بعيدا عن كاهل جسده الصغير, مع ذلك فإن الأحداث الجسام التي مرت بها البلدة , جعلت من ذلك أمرا اعتياديا بالنسبة لسكانها.

فعلى سبيل المثال: وقبل عشر سنوات , تعرضت مزارع السكان هناك لهجوم من قبل وابل من الضفادع الصغيرة , الأمر الذي عده الخبراء أنه يبشر بموسم زراعي جيد للمواطن الفرنسي .
وبعده بعدة سنوات , كانت الثلوج التي تتساقط على مدينة بلاك بيرق ذي لون قرمزي , صحيح أن سكان البلدة اعتادوا على ذلك الكم الهائل من الثلوج , إلا أنه هذه المرة اتخذ الثلج لون الدم, وصار يميل إلى اللون الأحمر عند ذوبانه . وعلى الرغم من عجز الخبراء عن تفسير تلك الظاهرة , إلا أن المواطنين العاديين هناك عرفوا بحدسهم أن أحداثا جساما ستحصل .

أما الصيف الذي يلي تلك الظاهرة , فقد ظل محفورا في ذاكرة الفرنسيين بما جلبه من مصائب وويلات على سكان البلدة . ففي ذلك الوقت اجتاح بلدة بلاك بيرق مرض الطاعون -ذاك الذي قضى على نصف سكان البلدة وقضى على النصف الاخر من سكانها .
وعلى صعيد آخر , فقد كانت حادثة ظهور طيف والدة الطفل في الحديقة العامة, البارونة هايتي بارلو تعني ما لا يمكن أن يتصوره البعض .

كانت عائلة البارونات التي ينتمي لها ذلك الصغير مقدسة بالنسبة لسكان بلدة بلاك بيرق منذ العصور القديمة , حيث تعتبر العائلة الحاكمة للبلدة .كانت الأغنى والأفضل , وكان السكان مستعدين للدفاع عنها حتى آخر قطرة من دم أبنائهم .ومن جميع نساء تلك العائلة , كانت هايتي محبوبة من الجميع نظرا لجاذبيتها , وطيبة قلبها .تزوجت في بوستن من رجل أعمال يدعى بارلو ,جلبته معها إلى بلاك بيرق وأنجبت له طفلا صغيرا يدعى جوزيف, بعد ذلك توفت هي وزوجها في ذلك المرض المشؤوم بينما لم يتعد عمر جوي الصغير السنة .
ولسوء حظ جوزيف فإن المرض لم يكتف بالقضاء على أبويه فحسب , بل تعداه ليشمل جميع أفراد عائلة البارونات وتحالفاتها عن طريق الزواج .حيث دفنوا جميعا في مقبرة تلة البلوط , تلك المقبرة التي كانت في ما مضى مستعمرة لهم , لكن ماذا عن الطيف :

في إحدى الليالي وبعد ثلاث سنوات على وفاة هايتي بارلو قال عدد من الناس الذين كانوا يمرون بالقرب من مقبرة تلة البلوط للاحتفال بعيد الربيع إنهم شاهدوا طيفها وهو يشير باتجاه الغرب وينادي على جو الصغير . صمتوا جميعا غير مصدقين لما يحدث , بعد برهة كان قد اختفى .

في تلك الأثناء , كان جوي يتجول بالقرب من الشجيرات المحاذية لبلدة نيفادا , كان قد أخذ إلى هناك من قبل بعض أصدقاء والده حتى لا يواجه نفس المصير الذي واجهته عائلته . لكنه في تلك الليلة التي ظهر فيها طيف هايتي كان مشردا , مطرودا من بيت متبنيه وضائعا في الصحراء .

من المعروف أنه قد تم تبنيه من قبل أفراد هندية , اعتنوا به ثم قاموا ببيعه في محطة القطار لامرأة كانت بحاجة أن يكون لها طفل .
كانت السيدة دارنيل تعيش في كليفلاند , أوهايو , إلا أن طفلها المتبنى لم يمكث طويلا معها ; حيث شوهد بعد ذلك بعدة أيام وهو يهرب من بيتها ويستقل القطار وعندما سئل عن السبب أجاب إنه عائد إلى منزله .بعد ذلك بأيام كان في ويتيفيل, تلك المدينة كما تعلمون بعيدة جدا عن بلاك بيرق , لا أحد يعلم كيف استطاع العودة إلى بلدته . بدت ملابسه بحالة جيدة , إلا كان وسخا ولم يستطع التعريف عن نفسه نظرا لصغر سنه وضالة حصيلته اللغوية حيث اعتقل في تلك الأثناء ووضع في دار الأيتام للرعاية .

بعد ذلك هرب جو من الدار إلى الغابات عائدا إلى بلدته التي لا يعرف الطريق إليها ولم يكن قد رآها طيلة حياته .
“شاهدناه بعد أيام يقف وحيدا تحت المطر في إحدى شوارع بلاك بيرق : كان حافي القدمين , يرتعش جسده من شدة البرد , فقرر أن يدخل إلى إحدى العمارات القديمة للاختباء , إلا أنه كان قد غافله كلب مشرد جعله يهرب بعيدا عبر الطريق المؤدي إلي المقبرة التي يسكن فيها والديه.”
وفي الصباح وجدوه مستلقيا على قبر أمه دون أن تمد له ذراعيها لتقوم باحتضانه , كان جسده الصغير مبتلا, يضع إحدى يديه تحت خده , والخد الآخر بدا نظيفا وناصعا , كأنما قد نال قبلة من ملائكة الله العظماء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى