لوحات تحوّلت إلى «أيقونات»

سمير غريب

رسم عدد لا يحصى من الفنانين عدداً لا يحصى أيضاً من اللوحات عبر العصور. ومع ذلك، وبدءاً من عصر النهضة، فإن عدداً من اللوحات لا يتجاوز أصابع اليدين تحول إلى أيقونات في تاريخ الفن. كلمة أيقونة في أصلها اليوناني تنتمي إلى عالم اللاهوت المسيحي وتعني صورةً أو تمثالاً صغيراً لشخصية دينية للتبارك بها. أي أنها عمل فني وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العمل من مكانة لدى الناس. بعيداً من الفن الديني ورموزه، هنا محاولة للتعرف إلى بعض هذه اللوحات التي أصبحت أيقونات حية وحاضرة بقوة عبر الزمن، وأسباب تحولها.
أقدم هذه اللوحات هي ولادة فينوس (1484) للرسام ساندرو بوتيتشيلي التي جمع فيها بين الجمال والرشاقة. صوّر فينوس بصورة جديدة كانت ثورية وقتذاك، طويلة متناسقة وعارية لا بد أن كل ذلك أصاب مشاهديها وقتها بالصدمة. لا شك في أن بوتيتشلي كان بحاجة إلى قدر من الجرأة ليقرر رسم إلهة الجمال عارية. عريها كان سابقة في فن الرسم، ما أسهم في شهرتها وتحولها إلى أيقونة. هي من أكثر اللوحات التي نصادفها يومياً، أحياناً بصورة استفزازية كما استخدمتها المغنية الأميركية ليدي غاغا، أو بصورة تهكمية كما وظفتها الممثلة بيتي وايت. قلدت الفنانة اليابانية المقيمة في ميلانو «توموكو ناجاو» اللوحة مرات كثيرة، وهي تهوى لصقها على جدران المنازل، وتلجأ إلى التهكم منها عن قصد! لإيصال رسائلها الخاصة وتطرح من خلالها أسئلة نقدية على عالم اليوم. طوى النسيان الفنان بوتيتشيلي بعد موته ولم تتم إعادة اكتشافه إلا في نهاية القرن التاسع عشر، فاعتبروه أحد أعظم الفنانين في تاريخ الفن. عندما تم افتتاح المتحف الذي يضم أعماله في فلورنسا لم يأتِ أحد لمشاهدتها. أما اليوم فيحضر الجمهور لمشاهدتها بالذات والكثيرون اليوم لا يعرفون اللوحة إلا من خلال البطاقات البريدية أو مطبوعةً على القمصان.
أما الأشهر فهي لوحة الموناليزا (1503) التي استنسخت وأعيد رسمها ربما مئات آلاف المرات. استوحى ربما آلاف الرسامين من شتى أنحاء العالم أعمالاً لهم منها. هي معلقة في متحف اللوفر منذ أكثر من قرنين باستثناء فترة اختفت فيها عن الأنظار بعد سرقتها عام 1911 واستعادتها بعد 3 سنوات. قضى ليوناردو دافنشي سنوات في رسم المرأة الشابة التي تظل هويتها لغزاً محيراً بابتسامتها ونظرتها. الأمر مختلف في لوحة عذراء كنيسة سيستين (1514) للفنان الإيطالي رافائيل. الجزء الذي يصور الملائكة في أسفل اللوحة فقط هو من حقق شهرة عالمية! فأعيد استخدامه في عدد لا يحصى من الرسومات الأخرى والإعلانات المختلفة.
رسم المصور الهولندي يوهانس فيرمير لوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي عام 1665، لكن تحولها إلى أيقونة جاء متأخراً. حولتها الكاتبة الأميركية تريسي شيفالييه عام 1999 إلى بطلة رواية تحمل العنوان نفسه. لقيت الرواية رواجاً كبيراً على عكس اللوحة وقتها. عام 2003 تم تصوير الرواية في فيلم سينمائي بطولة سكارليت جوهانسون وبالتالي شاهدها الملايين في العالم. لولا هذه الممثلة الرائعة لما تحولت اللوحة إلى أيقونة. إذ شاءت الصدف أن يكون هذا الفيلم وفيلم «ضائع في الترجمة» سبب نجاح الممثلة فانعكس وهجها على صاحبة القرط اللؤلؤي بعد مضي ثلاثة قرون على رسمها. منذ ذلك الحين لا يتوقف سيل الزوار الذين يقبلون على مشاهدتها في متحف موريتشيوس بالعاصمة الهولندية. وكما هو الحال في الموناليزا تخفي لوحة هذه المرأة سراً ما أيضا. اللوحة تصور وجه فتاة ترتدي ما يشبه الطربوش يبدو كصورة شخصية، إلا أنها ليست صورة لشخص حقيقي. وهي لا تشبه لوحات وجوه تلك الحقبة التي تتسم بتجهمها فهي تنظر للمشاهد مباشرةً واضعةً على شفتيها ما يشبه ابتسامة. اللوحتان: الموناليزا والفتاة ذات القرط اللؤلؤي تنحدران من حقبتين زمنيتين مختلفتين، لكنهما تشتركان في الغموض الذي يثير التكهنات. والسؤال الذي شغل الكثيرين في اللوحتين: إلى من تنظر المرأة وبماذا تفكر؟
يعرض المتحف الوطني في أوسلو لوحة الصرخة للمصور النرويجي إدوارد مونك، كتبت عنه هنا (الحياة 19 كانون الثاني (يناير) 2016). اشتهرت هذه اللوحة بفضل حدث شغل الرأي العام، فقد عرضت للمرة الأولى عام 1893 مباشرة بعد الانتهاء من رسمها فغضب المشاهدون واعتبروها فضيحةً ومجرد تلطيخ ألوان. بعدها أصبح تأثيرها أقوى لأنها تتعلق بجانب أساسي في حياتنا وتختزله بقوة. فنحن لا نرى فيها بوضوح إن كانت تصور رجلاً أو إمرأة عجوز أم شاباً. إنها مجرد كائن بشري يصرخ. هذا النداء موضوع قابل للتطبيق في مجالات أخرى. اتخذ المصور البريطاني جيرالد سكاف من هذا النداء نموذجاً في ملصق للفيلم الموسيقي الجدار لفرقة بن فلويد. الأمر نفسه ينطبق على فيلم الرعب الأميركي الذي يحمل اسم صرخة إذ يرتدي القاتل قناعاً مستوحى من اللوحة. هذا يبرزه أيضاً أحد مشاريع حماية البيئة بعنوان صرخة الطبيعة للفنانة النرويجية ليزا فولف تدعو فيه كل الناس إلى إطلاق صرخاتهم وتصويرها ثم نشرها على الإنترنت. فضلت ليزا إعداد لوحتها من مواد مجمعة من القمامة. بدأ اهتمامها بلوحة الصرخة انطلاقاً من اهتمامها بمشكلات تلوث البيئة، وخصوصاً بعد الإطلاع على نص كتبه إدوارد مونك يتحدث فيه عن شعوره بصرخة مدوية صدرت من الطبيعة. الشخص المرسوم يشد اهتمام المشاهد من الوهلة الأولى، ويزداد الاهتمام بفعل الخلفية المائلة. في الواقع، إنها ليست لوحة جميلة، لكنها لوحة تشدنا إليها وتغمرنا بقوة فتجبرنا على التفاعل معها بكل عفوية، كما لو كان ذلك الشخص فيها يعنينا ويصرخ في وجهنا. الوجه الصارخ يشبه إلى حد ما قناعاً، وهذا ما يجعله مناسباً جداً لكي يكون أيقونةً أو رمزاً أو شعاراً. ونظراً إلى لشهرة اللوحة، عمل عليها كثيرون بعدها. تناول إدوارد مونك موضوع الصرخة في أربع نسخ مختلفة، سرقت إحداها عام 1994. كانت اللوحة مشهورة آنذاك، لكن حادثة السرقة زادت من مكانتها كما حدث مع لوحة موناليزا في بداية القرن العشرين.
بعد مضي أربعة قرون تحلى الرسام الهولندي بيت موندريان بجرأة مشابهة وخط طريقه الخاص في الرسم. ضربات فرشاته أحدثت ثورةً في عالم الفن. لوحاته التجريدية التي رسمها اعتباراً من عام 1921 كانت شديدة الاختلاف عن المعهود ولم يعجب ذلك المشاهد في البداية، إلا أن فنه فرض نفسه وأثر على تصميم القرن العشرين. قلده كثيرون من الفنانين بعد ذلك، وهناك من أعاد رسم لوحاته على جدران المباني وهناك من استخدمها في التصميم المعماري وتصميم الأثاث، وهكذا. يعتقد بعض الناس أن خطوط موندريان اخترعتها الدعاية، لكن الحقيقة أن جميع أعمال موندريان متميزة يخطط فيها بدقة لاستخدام الألوان والأشكال. يتعلق الأمر عنده بالديناميكية والنظرة المتفائلة للحياة وهذا يعجب الناس وبخاصة المصممين ومصممي الموضة. عام 1965 استخدم مصمم الموضة الفرنسي إيف سان لوران خطوط موندريان في مجموعته الشتوية وكذلك فعل مصممون غيره في أنحاء العالم. لوحة موندريان «تشكيل بالأحمر والأسود والأصفر والأزرق والرمادي» (1921) تبدو بسيطة من الوهلة الأولى لكنها ليست كذلك، فكل مربع وخط فيها مدروس بدقة. عندما ننظر إليها نتنبه قبل كل شيء إلى تقاطع الخطوط التي عندما نركز فيها نلاحظ أنها لا تنتهي عند طرف اللوحة بل قبل الطرف بقليل، إذ يبدو أنه لم يرد أن يخلق انطباعاً بأن اللوحة هي مجرد جزء من لوحة أكبر. الأشكال المجردة بألوانها المميزة موجودة في حياتنا اليومية في كل مكان كإشارة إلى الأصل الذي يجهله اليوم معظم الناس. كان هذا الأسلوب التجريدي ثورةً قبل مئة عام أما اليوم فيعتبر فناً كلاسيكياً.
المثير للاهتمام هو ذلك الاتفاق الجماعي، سواء من النخبة أو العامة، لرفع عمل ما إلى مرتبة الأيقونة. نادراً ما يوجد شيء تجمع عليه أذواق البشر كالأيقونات. لا بد من أن يكون هناك تميز فني في اللوحة التي تتحول إلى أيقونة. لكن فوق ذلك يجب أن تتوافر أسباب أخرى منها ارتباطها بظروف معينة كالسرقة أو نشوب فضيحة تتعلق بالعمل أو بمبدعه، أو أي حدث آخر لافت للنظر ويعلق بالأذهان. الحفاظ على قيمة الأيقونة ومكانتها يتطلب قبل كل شيء أن تبقى راسخةً في الذاكرة الجماعية البصرية وهذا تقوم به وسائل الإعلام. أعتقد أن هناك قاعدة خاصة بأيقونات تاريخ الفن، إذ لا يمكن التخطيط لها مسبقاً فذلك ليس بيد الفنان، بل نسبة الرواج هي من تقرر ذلك. هناك شرط آخر يجب توافره كي تتحول لوحة ما إلى أيقونة، إذ يجب أن يكون لها مغزى يتجاوز العمل الفني نفسه ولا يرتبط بزمن محدد. المشكلة هنا أن العمل الفني يتحول إلى بضاعة استهلاكية مبتذلة في الحياة اليومية. هناك عناصر مشتركة بين الأعمال الفنية السابقة أسهمت في جعلها أيقونة. فهي جميعها أصيلة، وبها شيء جديد غير مسبوق وربما جريء، ويمكن التعرف إليها بسهولة. لكن هذا لا يفسر في شكل نهائي كيف أصبحت أيقونة. وهذا من جمال الفن: الحفاظ على شيء من الغموض.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى