الهجويري يكشف المحجوب

محمد الحمامصي

يعد هذا الكتاب “كشف المحجوب” لأبي الحسن علي بن عثمان الهجويري، أقدم كتاب في التصوف باللغة الفارسية وأول كتاب منظم في الأصول النظرية والعملية للتصوف، حيث بحث عن حقيقة التصوف ومعناه، وشرح الألفاظ والمصطلحات الشائعة بين المتصوفة، وترجم لكثير من أعلام التصوف الإسلامي، كما يعد الوحيد الذي بقي ووصل إلينا بين مؤلفات الشيخ الهجويري.

ويشتمل الكتاب الذي ترجمته د. إسعاد عبدالهادي قنديل، وصدر أخيرا عن دار آفاق على 25 قسما، وقد اعتمد الهجوهري ـ وفقا للمترجمة ـ على الكتب العربية في التصوف السابقة عليه مثل “اللمع” و”طبقات الصوفية” و”الرسالة القشيرية”، وأفاد منه من جاء بعده من المؤلفين الفرس، وكل من له دراية بالتصوف الإسلامي، وصلة بالمراجع الفارسية مثل تذكرة الأولياء ونفحات الأنس وسفينة الأولياء وتاريخ، يستطيع أن يدرك إلى أي مدى أفاد مؤلفو هذه الكتب من كشف المحجوب وإلى أي حد كان اعتمادهم عليه سواء صرحوا بذلك أو لم يصرحوا.

ورجحت المترجمة في دراستها وتقديمها المتميزين للكتاب والمؤلف وعصره أن تأليفه بدأ حوالي 435 هـ وهي السنة التي وقع فيها الهجويري أسيرا في مدينة لاهور أثناء فتنة الراجات التي وقعت في هذه السنة، أما تاريخ الانتهاء منه فيبدو أن الهجويري قد أتمه فيما بين سنتي 441 ـ 442 هـ.

وجاء الكتاب إجابة عن سؤال وجهه إلى الهجويري أحد مواطنيه ويدعى “أبوسعيد الهجويري” وسأله فيه أن يبين أصول الطريقة ومقامات الصوفية وأقوالهم ومعاملاتهم “قال السائل وهو أبوسعيد الهجويري: بين لي على التحقيق طريقة التصوف، وكيفية مقامات الصوفية ومذاهبهم وأقوالهم وأظهر لي رموزهم وإشاراتهم، وكيف تكون محبتهم لله عزّ وجل، وكيفية إظهارها على القلوب وما السبب في حجاب العقول عن كنهها وماهيتها، ونفرة النفس من حقيقتها وسكينة الروح إلى صفوتها وما يتعلق بهذا من المعاملات”.

وقبل الإجابة عن هذا السؤال يرسم الهجويري صورة قاتمة لعلم التصوف في أيامه فيقول ما معناه “أعلم أن هذا العلم قد اندرس في الحقيقة في زمننا هذا وبخاصة في هذه الديار حيث انشغل الخلق جميعا بأهوائهم وأعرضوا عن طريق الحق. وقد بدت لعلماء هذا العصر وأدعياء هذا الوقت صورة لهذه الطريقة على خلاف أصلها، فاستحضر همتك لأمر قصرت عنه أيدي أهل هذا الزمان وأسرارهم باستثناء خواص حضرة الحق وانقطع عنه مراد أهل الإرادة وانعزلت عن وجوه معرفة أهل المعرفة غير خواص حضرة الحق”.

ويمضي الهجويري في هذا إلى أن ينتقل إلى موضوع الكتاب ويبدأ في شرح المنهج الذي يسير عليه فيقول ما ترجمته “والآن فلأبدأ بالكتاب وأوضح مقصودك في المقامات والحجب، وأبسطها ببيان لطيف وأشرح عبارات أهل الصنائع، وألحق بذلك قدرا من أقوال وأمده بغرر الحكايات حتى يتحقق مرادك، ويعلم من ينظر في هذا العلم من علماء الظاهر وغيرهم أن لطريق التصوف أصلا قويا وفرعا مثمرا”.

يقول الهجويري “الصوفي اسم يطلقونه على كاملي الولاية ومحققي الأولياء ويقول أحد المشايخ رحمهم الله “من صافاه الحب فهو صاف، ومن صافاه الحبيب فهو صوفي”. واشتقاق هذا الاسم لا يصح على مقتضى اللغة من أي معنى، لأن هذا الاسم الأعظم من أن يكون له جنس ليشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده. وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة، “لأن الصوفي ممنوع عن العبارة والإشارة”. وحين يكون الصوفي ممنوعا عن كل العبارات فإن العالم كلهم معبرون عنه، عرفوا أو لم يعرفوا وأي خطر يكون للاسم في حال حصول المعنى”.

ويضيف “وهم يسمون أهل الكمال منهم بالصوفي، ويسمون المتعلقين بهم وطلابهم بالمتصوف والتصوف تفعل وتكلف، والصفاء هو الفرع الأصلي، والفرق بينهما ظاهر من حكم اللغة والمعنى، “فالصفاء ولاية لها آية، والتصوف حكاية الصفاء بلا شكاية” والصفاء معنى متلألئ وظاهر التصوف حكاية عن ذلك المعنى. وأهله في هذه الدرجة على ثلاثة أقسام الأول الصوفي، والثاني المتصوف، والثالث المستصوف”.

ويوضح الهجويري أن الصوفي: هو الفاني عن نفسه والباقي بالحق، قد تحرر من قبضة الطبائع، واتصل بحقيقة الحقائق، والمتصوف: هو من يطلب هذه الدرجة بالمجاهدة ويقوم نفسه في الطلب على معاملتهم، والمستصوف: هو من تشبه بهم من أجل المنال والجاه وحظ الدنيا، وهو غافل عن هذين وعن كل معنى إلى حد أن قيل “المستصوف عند الصوفية كالذباب، وعند غيرهم كالذئاب”، فالصوفي هو صاحب الوصول، والمتصوف هو صاحب الأصول، والمستصوف هو صاحب الفضول”.

ويرى الهجويري أن الوجد والوجود مصدران: أحدهما بمعنى الحزن، والثاني بمعنى الوجد، وفعل كلاهما كأنه واحد، ولا يمكن التفرقة بينهما إلا بالمصدر، كما يقال: وجد يجد وجوداً ووجدانا: إذا صار محزونا، وأيضاً: وجد يجد جدة: إذا صار غنيا، ووجد يجد موجدة: إذا غضب، والفرق بين هذه كلها يكون بالمصادر لا بالأفعال. ومراد هذه الطائفة من الوجد والوجود إثبات حالين يظهران لهما في السماع، أحدهما مقرون بالحزن، والآخر موصول بالوجد والمراد. وحقيقة الحزن: فقد المحبوب، ومنع المراد، وحقيقة الوجد: حصول المراد. والفرق بين الحزن والوجد هو أن الحزن اسم الغم الذي يكون في نصيب النفس، والوجد اسم الغم الذي يكون في نصيب الغير على وجه المحبة.

وتغير هذا جملة صفة الطالب “والحق لا يغير “.. ولا تدخل كيفية الوجد تحت العبارة لأنها ألم في المغايبة، ولا يمكن بيان الألم بالقلم، فالوجد سر بين الطالب والمطلوب يكون بيانه في كشف تلك الغيبة، ولا تصح العلامة والإشارة إلى كيفية الوجود، لأنه طرب في المشاهدة، ولا يمكن إدراك الطرب بالطلب، فالوجود فضل من المحبوب إلى المحب، والإشارة معزولة عن حقيقته. وعندي أن الوجد ألم للقلب، أما من الفرح أو الترح أو الطرب أو التعب.. والوجود إزالة غم عن القلب ومصادقته لمراده.. وصفة الواجد: أما حركة في غليان الشوق في حال الحجاب، وأما سكون في حال المشاهدة في حال الكشف “أما زفير وإما نفير، أما أنين وأما حنين، أما عيش وأما طيش، أما كرب وإما طرب”.

ويذهب الهجويري فيما يتعلق بالعلاقة ما بين الشريعة والحقيقة إلى أن مَثل الشريعة والحقيقة كمثل شخص حيّ به روح، إذا انفصلت عنه روحه صار جيفة، وتصير الروح ريحًا، فقيمة الاثنين متوقفة على اتصال أحدهما بالآخر فالشريعة بدون الحقيقة رياء، والحقيقة بدون الشريعة نفاق، وقد قال تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”.

ويقول “وقد أخطأت طائفتان في هذا الموضوع؛ إحداهما علماء الظاهر الذين يقولون: إنه لا فرق بين الشريعة والحقيقة، لأن الشريعة هي نفس الحقيقة، والحقيقة هي نفس الشريعة، والأخرى بعض الملاحدة الذين يقولون بإمكان وجود أحد هذين الأمرين بدون وجود الآخر، ويقولون: بأنه إذا كشفت الحقيقة بطلت الشريعة. وهذا مذهب الكرامية والشيعة والموسومين بهم”.

ويؤكد أن “الإيمان على التحقيق هو استغراق كل أوصاف العبد في طلب الحق، ويجب أن يكون اتفاق جميع المؤمنين على هذا لأن غلبة سلطان المعرفة قاهر لأوصاف الإنكار، وحينما يكون الإيمان تنتفي أسباب الإنكار، فقد قيل “إذا طلع الصباح بطل المصباح” وقوله تعالى “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها” فإذا حصلت حقيقة المعرفة في قلب العارف فنيت ولاية الظن والشك والإنكار، وسخر سلطانها حواسه وهواه حتى يكون كل ما يفعله ويقوله وينظره في دائرة أمره”.

ويشير الهجويري أنه قد جرت سُنَّةُ الله ـ جل جلاله ـ في المشتغلين بمحبته على أن يجعلَهم محلَّ لوم الناس، ويحفظَ أسرارهم من الانشغال بلومهم.. “وهذه غيرة الحق الذي يحفظُ أحباءه من ملاحظة الغير؛ حتى لا تقع على جمالهم عين، ويحميهم من رؤيتهم لأنفسهم؛ حتى لا يروا جمال أنفسهم ويعجبوا بها، ويقعوا في آفة العجب والكبرياء؛ فسلَّطَ عليهم الخلق ليطيلوا فيهم ألسنتهم، ومكَّنَ منهم النفس اللوامة لتلومهم على كل ما يفعلون، فإذا فعلوا الشر لامتهم به، وإذا فعلوا الخير رمتهم بالتقصير. وهذا أصل قوي في طريق الله ـ عزّ وجل ـ لأنه لا يوجد في الطريق آفة أو حجاب أصعب من أن يصير الإنسان معجبا بنفسه”.

وبين أن طريق العجب إلى نفس الإنسان له بابان: أحدهما رضا الناس ومدحهم، والآخر رضا الإنسان واستحسانه لأعماله. ثم قال: “وقد سد اللهُ بفضله هذا الطريق على أحبائه؛ حتى إن معاملاتِهم وإن تكن طيبةً لا يرتضيها الخلق؛ لأنهم لا يرونهم رؤية حقيقية، ومجاهداتهم وإن تكن كثيرة فإنهم لا يرونها بحولهم وقوتهم، ولا يعجبون بأنفسهم؛ حتى حفظوا من العجب بأنفسهم؛ فمن يرضى عنه الحق لا يرضى عنه الخلق، ومن يصطفي نفسه لا يصطفيه الحق”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى