«علي ونينو» النموذج الثالث

عباس بيضون

«قربان سعيد» الاسم المذكور لمؤلف رواية «علي ونينو» على غلاف الرواية ليس حقيقياً. هذا لا يعني أن اسم المؤلف وكذلك سيرته معروفان. ليس «قربان سعيد» الاسم الوحيد الذي تسمى به المؤلف فقد ادعى اسما آخر هو «أسعد باشا». لقد عمّى على اسمه وعلى سيرته فمن هو «قربان سعيد». حظي قربان سعيد بسيرة ضخمة كتبها توم ريس الذي تتبع في أكثر من ستمئة صفحة حياة الرجل وسيرته وبالطبع دقق في اسمه. الاسم الحقيقي بالنسبة لتوم ريس هو «ليف نوبيسباوم» الذي لم يكن والده كما ادعى من بارونات الأرض المسلمين، بل كان بورجوازياً يهودياً أما أمه بيرتا سلرتزكي التي يشير اسمها إلى موطن عائلتها سلوتزك فقد كانت هي الأخرى يهودية تزوجت من والده الثري. تلك الأم التي تجاهلها ليف في مذكراته كانت شيوعية تعاونت مع ستالين الذي كان يومذاك يحمل اسم كوبا، وقد انتحرت في ما بعد بتناول الأسيد. إذن قربان سعيد لم يكن كما تدل روايته «علي ونينو» ابن إقطاعي أذربيجاني مسلم بل كان ابن يهوديين، وإن يكن كما يدل اسمه المتحول قد أسلم في ما بعد. لعل ليف نوبيسباوم قد عمل على تعمية اسمه وسيرته، وربما أدى موقفه من الشيوعية ومن ستالين الذي كتب عنه كتاباً إلى تجاهل أمه البلشفية.
رواية «علي ونينو» تحمل عنوانا آخر هو «قصة حب» والرواية هي فعلاً قصة حب بين علي خان المسلم الارستقراطي الذي يملك أبوه أراضي في أذربيجان وإيران، كما أن عمه قطب في بلاط الشاه الفارسي، وبين نينو المسيحية المنحدرة من أحد ملوك الصناعة في باكو عاصمة أذربيجان. كانت أذربيجان يومها وهي تتوسط الشرق والغرب البلد الأول الذي انفجرت فيه آبار النفط ما حوله إلى مركز للثراء السريع والأثرياء الجدد. كما أنه كان بلداً مختلطاً متعدداً يعيش فيه المسلمون الشيعة إلى جانب الأرمن المسيحيين إلى جانب الزرداشتيين الفرس. بلد كهذا كان مركزاً للانفتاح والتسامح الديني والاختلاط والحرية الشخصية، الأمر الذي تمكن ملاحظاته في الرواية التي لا تروي قصة حب علي المسلم ونينو المسيحية فحسب، بل زواجهما بمباركة الأهل الذين ترددوا قليلاً قبل أن يمنحوا العاشقين بركتهم. يمكننا أن نعاين هنا قوة شخصية نينو والحرية التي تتمتع بها. لكن الحرب تندلع حول أذربيجان، إنها الحرب العالمية الأولى. يسافر علي وزوجته إلى طهران حيث يستقبلهما عمه ذو الحظوة في البلاط الفارسي، لكن فارس غير أذربيجان فهنا لا تتمتع المرأة بالحرية التي تتوفر لها في أذربيجان. انها هنا حبيسة نقابها ومنزلها. الأمر الذي لم تعشه نينو المتمردة الجريئة، لذا تمضي أوقاتها في طهران ساخطة باكية ثائرة وتتهدد بذلك علاقتها بعلي، فهي تريد مغادرة طهران إلى بلد أوروبي، الأمر الذي لم يكن علي يطيقه فهو لا يحتمل الحياة في أوروبا ويفضل عليها آسيا لكن من النمط الأذري. يعود علي ونينو إلى أذربيجان لكن الهدوء المؤقت الذي تنعم به أذربيجان لا يلبث أن يهتز، فثراء البلد وتعدده يغريان الشيوعيين من ناحية، والقيصريين من ناحية أخرى وتغدو أذربيجان فريسة لهما. عند ذلك يجازف علي فيرسل نينو إلى تفليس في جيورجيا التي كانت آمنة حتى ذلك الحين. ويبقى هو في باكو ليكون بين المدافعين عنها.
لعل رواية قربان سعيد أو ليف نوبيسباوم من الأعمال الأولى التي تتناول مشكلة الشرق والغرب أو بلغة الرواية آسيا وأوروبا. تبدأ الرواية بنقاش في صف مدرسي يفاضل بين أوروبا وآسيا، علي كان يفضل آسيا، «انا أحب البحر والصحراء والمدينة القديمة المغروزة بينهما. أما تلك الحشود.. القادمة هنا بحثا عن النفط والثراء.. فلا يمكن اعتبارها أهل باكو الحقيقيين». انها، كما ترى، مفاضلة بين الصحراء والعمران. كان النقاش عند قربان سعيد لا يزال هنا. الصحراء بانبساطها وجمالها، آسيا الصحراوية وأوروبا الرأسمال. ليست أوروبا الاستعمار وأوروبا الثقافة وأوروبا الاجتماع كما نراها في ما بعد عند توفيق الحكيم والطيب صالح وسهيل إدريس. ليف نوبيسباوم اليهودي الذي أسلم وتسمى بقربان سعيد وأسعد باشا ليس قادراً على إدارة المناظرة بين الشرق والغرب، بين اجتماعين وتقليدين وثقافتين. انها مناظرة بين الصحراء والعمران. بين الطبيعة والعمران، الطبيعة والتاريخ. لكن أذربيجان التي كانت آنذاك تذكر بلبنان بتوسطها بين الشرق والغرب وبتعددها وبانفتاحها، قد تصلح مثالاً ونموذجاً لحل ثالث، لبلد يجمع بين الطرفين عند تقاطع اجتماعين وثقافتين يبقى علي خان في باكو عند أسوارها يدافع عنها، رغم أن بقاءه فيها ورحيل نينو إلى تفليس يشعران بنهاية مأساوية للرواية. أيبقى ليدافع عن بلده تحفزه لذلك وطنيته، أم يبقى هناك دفاعاً عن هذا الحل الذي يشكل خلاصاً للشرق ونموذجاً ثالثاً بين العالمين.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى