شفيق الطارقي: ليس على المبدع أن يتسوّل عناية سلطة الإشراف

هيام الفرشيشي

شفيق الطارقي هو أحد الروائيين الجدد الذين يكتبون أعمالا أدبية مغايرة، بدأ صداها يرتد هنا وهناك، تحصل على الجائزة الأولى في مسابقة دبي للرواية عن روايته “لافازا”. وبذلك دخل إلى عالم الرواية من الباب الواسع رغم أنه عرف شاعر.

في هذا الإطار طرحنا عليه سؤال الكتابة كمطية للتجريب سيما وأنه يعتبر أن الشعر هو الأصل وهو ما مثل اكتشافاته الأولى لعالم اللغة، في حين أن الرواية قادرة على استيعاب كل الفنون بما في ذلك الشعر.

شفيق الطارقي وجه من وجوه الإبداع في تونس، ملامح آرائه هادئة حتى وإن نقد بعض المعاملات الثقافية التي تطعن في القيمة الابداعية وتنصب شراكها الممكنة للتعرض للناجحين نسبيا، التقيناه وكان لنا معه هذا اللقاء:

• إلى أي مدى تكون الكتابة صادمة ومخاتلة؟ كيف لها أن تزعزع قناعات القارئ القديمة؟ كيف لكاتبها أن يواجه أسئلة الكتابة الصعبة؟

ـ للكتابة تاريخها ولها امتدادها الأفقيّ وهي كما أجلت عن نفسها في خارطة الآداب عربيّة كانت أم غير ذلك تتقصّد فيما تتقصّد تلبية احتياجات عند المتلقّي وملء فراغات وتخصيب حضوره في هذا العالم حتّى يكون له معنى، ولأنّ القارئ قبلتها فإنّها بقدر ما تسعى إلى استرضائه وإلى الانسجام مع ذائقته فإنّها تعمد في غير تكلّف إلى كسر آفاق توقّعه وإلى مباغتة ما اطمأنّ إليه من ثوابت وسلّم به.

ومثل هذا الفعل لا بدّ له من شروط تكفل له النّجاح وتسيّج حدوثه بضرب من المعقوليّة، فمن يروم التّغاير والانقلاب على أسس وتجاوز السّائد من أنماط لا بدّ له من الوعي بما يتحكّم بالكتابة من قوانين ومن استيعاب لتاريخها في الجنس الّذي يروم أن يبعث فيه الجدّة وأن يبثّ الطّرافة.

على الكاتب حتّى يكون مجدّدا أن يمكّن نفسه من الأشكال السّابقة، وأن يسعى بعد ذلك إلى تفعيلها بالرّاهن، وعلى الصّدمة أن تكون ممتعة وأن تحمل القارئ وهو يتقبّلها إلى إعادة النّظر في ثوابته وإلى حلحلتها لتتصالح مع الحدث الطّارئ، وتجد له مبرّرا فنّيّا يبيحه، إنّنا في زمن اكتملت فيه الأشكال ولم يعد ثمّة جدوى من تكرارها، ممّا يجعل التّجريب ضرورة قصوى واجبة على الكاتب حتّى تستمرّ رسالته، وبديهيّ أن ينشأ عن كلّ جديد مبتكر رفض وتململ ولكنّ تكريس الفعل يحوّل الغريب إلى مألوف.

• ظهرت روايات جديدة لكتاب خاضوا معترك هذا الفن السردي حديثا توجت كتاباتهم في محافل دولية مهمة، أنت أحدهم. هل لدينا جيل روائي جديد في تونس؟

ـ ما يقع في تونس ليس منفصلا عن سياقيه العربيّ والعالميّ، ولا شكّ أنّ ظهور أعمال روائيّة احتلّت من المشهد العربيّ مكانة تميّزها يكشف عن قدرة المبدع التّونسيّ في هذا الجنس من الكتابة على التّنافس وأهليّته بما يملك من زاد فنّيّ لتصدّر السّلّم، وأنا على يقين أنّ التّتويجات آتية لا ريب فيها، فالأقلام السّاردة في تونس واعدة ولها وقعها الخاصّ وفرادتها، والجوائز في تقديري اعتراف لا بدّ من توظيفه إيجابيّا وأن نكفّ بشأنه عن جلد الذّات واستنقاصها، وقد وجب من هذا المنطلق مباركة ما أمطره الرّوائيّون لأنّ خراجه عائد لتونس وثقافتها.

وأيّا كانت مواقفنا من الأثر أو من صاحبه ومن السّياق الّذي يشمل كلّ تتويج فإنّ المسألة عندي تتجاوز هذا الخلف إلى أبعاد وطنيّة، فبرهان الثّورة متى سلّمنا بحدوثها ليس مقتصرا على ما هو سياسيّ، وإنّما هو أمتن متى تعلّق برصيدنا الثّقافيّ.

إنّ التّتويجات لا ترتبط فحسب بأسماء أصحابها وإنّما هي تتويجات تونسيّة، وهي رصيد قوميّ ونحن أحوج ما نكون إلى بوكر تونسيّة ثانية بعد ما حقّقه شكري المبخوت وإلى تتويجات شبابيّة على غرار دبي الثّقافيّة الّتي نالني شرف الحصول عليها وعلى غرار جائزة الشّارقة الّتي كانت تونسيّة بثلاثة أسماء، مثّلها وليد أحمد الفرشيشي وهيام غداس، وسنية الفرجاني، ناهيك عن الجوائز الوطنيّة وأقصد جائزة الكومار وجائزة معرض الكتاب، وأملي أن تتحوّل هذه المسابقات إلى عربيّة.

راهن الرّواية التّونسيّة مشرق والأجيال الّتي تمثّله متعدّدة وخطّها الفنّيّ يسمه التّنوّع، فللمبخوت تمثّله الفنّيّ الّذي نجح فيه، وللحبيب السّالمي نسقه الرّوائيّ المميّز، ولكمال الرياحي عوالمه الخاصّة والمدهشة، ولنبيل قدّيش مساره الّذي أثبت حضوره وأعلن عن جدّيّته، والأسماء كثيرة ولا يتّسع المجال لذكرها، ومن جهتي أحاول أن أختطّ لي دربا يتوافق مع تمثّلاتي الجماليّة ولعلّي أصبت في أشياء وأخطأت في أخرى، ورهاني اليوم أن أقنع عبر فعل المراكمة والتّنويع فالطّريق مازالت طويلة ونحن في بدايتها.

• الشعر فن يلامس الحقيقة والكينونة، في حين أن الرواية تركيب فني رمزي لواقع النفس والمجتمع والفكر والتاريخ، واقع متخيل يصنعه الكاتب ويمنح الحياة لشخصياته. شفيق الطارقي الشاعر والروائي، كيف سلكت سبيل السرد وانعتقت عن تجربتك مع ذاتك الشعرية؟

ـ لا أجد فاصلا بين الجنسين، فشخصيّتي الشّعريّة غذّت أختها الرّوائيّة وأمدّتها بأدوات كان لها فعلها في تركيب الجملة وفي تسوير الحبكة، ما من تنازع وإنّما هو التّكامل، يتغذّى فيه كلّ فاعل إبداعيّ بالآخر، ويلوّنه، مشروعي الشّعريّ مازال قائما، وإن كنت قد كففت عن النّشر فذلك عائد لأسباب متعدّدة منها عوائقه ثمّ إنّ اختصاصي العلميّ مداره الشّعر ولي موقفي من الحركة الشّعريّة في تونس وفي العالم العربيّ وتمثّلي للقصيدة ولمفهوم الشّعر الّذي أختلف فيه مع السّائد، وأتّفق في أشياء، وفيما أملك مخطوطين شعريّين سأسعى لنشرهما في الزّمن المناسب، إنّني أتأمّل المشهد، وأسعى أن أكون مضيفا وفيما يخصّ الرّواية فالإجماع قائم على أنّها أكثر الأجناس اتّساعا لاستيعاب غيرها، ولم يلهني الانشغال بها عن الشّعر لأنّه الأصل ولأنّه الجنس الّذي شكّل لقائي الأوّل باللّغة.

• أفرزت الثورة في بداياتها أعمالا أدبية انفعالية تسجيلية، ولكن لم يطل انتظار القارئ ليجابه بروايات تتسم بالنضج الفني، كروائي: هل ساهمت الثورة في تشكيل وعي جديد لديك؟

ـ أقول دائما، متى سلّمنا بحدوث الثّورة فإنّها نتيجة وليست سببا، الثّورات تكون عادة نتاجا لحراكين اجتماعيّ على السّطح وثقافيّ في العمق، وقد وجبت مساءلة الثّورة عن حدوثها وهذا ما حاولت الاشتغال عليه في رواية “لافازّا”، ما حدث في تونس سواء أكان ثورة أم شيئا آخر لم نحسن حتّى الآن تسميته، كان له أثر في تفعيل طاقات داخل اللّغة وكان له أثر في محاكاة واقع جديد له خصوصيّاته المختلفة عمّا كان، ما حدث علّمني أن أعيد صياغة أسئلتي، وأن أبحث لها عبر الرّوائيّ عن أجوبة، لقد سمحت لنا الثّورة بأن نقول كلّ شيء ككتّاب وأن نتجاوز محظورات، ولكنّ القضيّة قائمة في أشكال التّعبير لا في مضامينه، والثّورة لا تعطي الكتّاب أدوات عملهم تلك الأدوات يصطنعها الكاتب لنفسه عن مكابدة وعمل دؤوب، الكتابة عندي فعل يوميّ إنّها ثورتي الوحيدة والحقيقيّة.

• لماذا لم نعرف في تونس حركات أدبية قد تكون الثورة إحدى الأسس التي كان بالإمكان البناء عليها؟

ـ لعلّ في الإجابة السّابقة ما يشمل هذا السّؤال، فالرّأي عندي أنّ الحركات الأدبيّة خصوصا والفنّيّة عموما هي الّتي تصنع ثورة ما، ونحن نرى بما لا يوجب المجاملة أنّ الثّورة لم تمنح المثقّف الحقيقيّ شيئا يذكر مازالت الرّداءة نفسها تتحكّم بالمشهد، ومازالت الأسماء نفسها تبسط سلطانها، ومازال المثقّف في آخر درجات الاعتبار، فالكلّ منشغل بالسّفاسف وبالأبطال الجدد يملؤون الشّاشات من سياسيّين نراهم أكثر ممّا نرى وجوهنا في المرآة.

• ما مشاريعك الإبداعية القادمة؟

ـ بعد أن تعذّر نشر روايتي المتوّجة في دبي لأسباب تخصّ دار الصّدى وما تعيشه من مشكلات فإنّني أسعى إلى نشرها في تونس وسيكون ذلك قريبا، ثمّ إنّني أدّخر رواية ثانية أتممتها وأجّلت نشرها حتّى صدور سابقتها في الزّمان، لعلّها تكون بين يدي القارئ أواخر هذه السّنة، بالإضافة إلى مخطوطين شعريّين.

• ما رأيك فيما يخص المشهد الثقافي في تونس في السنوات الأخيرة؟ ولماذا يركن الإبداع الحقيقي في الظل ولا تسلط عليه الإضاءة اللازمة؟

ـ ليس على المبدع أن ينتظر المنة من أحد، وليس عليه أن يتسوّل عناية سلطة الإشراف، فالّذين يسودون المشهد هم أنفسهم ولن يتبدّلوا لأنّهم يملكون ميكانيزمات التّملّق والتّسلّق والمحاباة، والمشهد الثّقافيّ على بكرة أبيه، وتلزمنا سنوات ضوئيّة حتّى تغيّر الأيّام من عاداتها، وأنا أكتب لا أفكّر في أن يهتمّ بي أحد، أو جهة وليس من مطامحي أن أتجلّى جسدا في صور تذكاريّة مع فلان أو علّان، أو أن يعطف عليّ البعض بتوجيه دعوة للنّزهة وللنّميمة، ببساطة أحكم غلق غرفتي على العالم وأضع القارئ المطلق نصب عينيّ وأكتب، ولا أتحدّى أحدا أو أنافس أحدا، فعلاقتي سلميّة بالجميع، إنّني في تحدّ مع الوقت ومع نفسي ومع أدواتي الفنّيّة والتّتويجات آتية هي ليست غاية في حدّ ذاتها، ولكنّها تحيّة أقدّمها لطواقم النّسيان في هذا الوطن، أؤمن بالعمل وبالعمل.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى