ما بين عالم البورتريه والبحث عن المطلق

محمد عبد الرحيم

اشتهر الفنان الراحل خلف طايع (1943 ــ 2014) بفن البورتريه، وقام الرجل بالفعل برسم العديد من البورتريهات لأشهر الشخصيات المصرية، خاصة في ما كان يكتبة الراحل خيري شلبي في مجلة «الإذاعة والتلفزيون» فـــــي باب تحــــت اسم «بورتريه»، إلا أن المعرض المقام حالياً في قاعة الباب في دار الأوبرا المصرية، وهو معرض استعادي لأعمال مُنتقاة للفنان الراحل، يكشف مدى موهبته، ومدى العوالم التي ارتادها، من البورتريه إلى الطبيعة، وحتى التجريد والبحث عن المطلق، إن جاز لنا التعبير.

النص والصورة

لم تكن رسومات خلف طايع ــ البورتريهات ــ ترجمة حرفية لصاحب الشخصية التي يكتبها خيري شلبي، ولم تكن تقنية الرسم بالرصاص إلا كشفاً عن الشخص محل الموضوع وعالمه، تفاصيل الوجه ونظرة العين والإيماء كانت دلالات عميقة لهذا الشخص أو ذاك، بدون الشكل المعهود لهذه الشخصيات الشهيرة تماماً لدى الجميع، سواء كانت سياسية أو فنية.. محمد حسنين هيكل، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، أم كلثوم، رؤساء الدولة كجمال عبد الناصر والسادات، والشعراء والمخرجين كمحمد عفيفي مطر، إبراهيم أصلان ويوسف شاهين. نظرة العين والإيماء هي ما كان يكتشفها الرجل، ويحاول التعبير عنها في دقة ورهافة شـــديدين، بدون مبالغات في الخط، أو اللون في بعض الحالات التي رسم فيها طايع الشخصية من خلال اللون. هنا تصبح الصورة تتفوق على مجرد التعبير عن النص المكتوب، ولكن محاولة دائمة للوصول إلى روحها وصفاتها، وسلوكها عموماً.

البيئة ومفرداتها

استقى طايع العديد من موضوعات لوحاته من البيئة الساحلية، الإسكندرية التي ولد وعاش فيها كثيراً، لكن ليس بشكل مباشر، أو اللوحات المعهودة لمثل هذه البيئة، إلا أن الحس بالمطلق يبدو وإن كان على استحياء في هذه المرحلة من مراحل الفنان. منازل متراصة، والسماء هي الأفق الضروري، ورغم ما يبدو من تراص البنايات، إلا أن نوافذها الكثيرة تخلق حالة توازن مع الأفق الأزرق، الذي يخيم عليها في رفق. هنالك أيضاً بعض اللوحات التي تتخذ من التشكيل الإسلامي ــ الطراز ــ تقنية أساسية لها، من حيث الأقبية والمآذن والجدران وزخارفها. ما يفعله خلف طايع هنا هو الاقتصاد الشديد، فقد الإيحاء بالمبنى وجو المكان، وعلى المُشاهد أن يستكمل اللوحة، ويستنتج العالم الذي تحيا من خلاله. وهنا يغيب التشخيص تماماً، فقط البنايات وعالمها والحياة التي يمكن أن تعيشها شخصيات تم التضحية بها في سبيل حالة أسمى من التجريد.

التجريد

وهي المرحلة الأكثر إدهاشاً في أعمال الرجل. هنا التجريد يبلغ مداه، ويبدو من خلال الأشكال الهندسية.. مثلث، دائرة، أو شكل اسطواني. هناك دوماً ألوان نقية، إضافة إلى الفراغ الذي يحيط بهذه الأشكال، كذلك ترتيبها من خلال مقدمة وخلفية اللوحة. ومن خلال النور والظل، وبالتالي انعكاس بعض هذه التكوينات، تبدو محاولات الوصول إلى المطلق، هناك دوماً ما يشــــــبه الأبواب، بما يوحي الظل بهذا الإحساس، وهناك فراغ في الخلفيـــة يتشكل في الغالب في لون أزرق بتدرجاته المختلفة، والشكل الدائري ــ رمزاً صوفياً ــ يصبح في حالة آمنة ومتوازنة تماماً فوق المستطيل، وهي حالة توحي بثقة كبيرة وأمل أكبر، خاصة أن هذا يأتي من خلال كادر أو تكوين بصري متوازن تماماً في اللوحة.
هل لنا أن نقارن هذه اللوحة بأخرى عبارة عن أبواب تتوارب وترمي بظلالها على مساحة كبيرة تنتهي بأزرق البحر والسماء، وإن كان التباين اللوني بينهما يؤكد حالة القلق والمتاهة التي رغم الهدوء الشديد البادي في اللوحة، تتأكد من خلال تفاصيلها. فالمساحة اللونية الأكبر تحتلها السماء، لكنها بعيدة تماماً، ومنفصلة عن لون البحر وعالمه، إضافة إلى أبواب ذات لون أحمر قاتم، حتى الرغبة هنا تبدو في حالة كبيرة من التعقل! هذه اللوحة بوجه خاص تبدو من أكثر لوحات المعرض تأثيراً، وأكثر مدعاة للتأمل والتفكير، في ما توحي به، والعالم الذي تعبر عنه في رصانة وجموح في الوقت نفسه.

٭ ٭ ٭

الفنان خلف طايع .. من مواليد الإسكندرية عام 1943. بكالوريوس كلية الفنون الجميلة/قسم التصوير 1968، ماجستير بعنوان «التطور التاريخي لعلاقة الصورة بالكلمة المكتوبة» 1984، الدكتوراه بعنوان «المنمنمات الإسلامية ودورها في عمل تصوير إيضاحي معاصر» 1996. أقام العديد من المعارض الشخصية والجماعية داخل مصر وخارجها، منها .. معرض فناني الإسكندرية 1969، بينالي فناني دول حوض البحر الأبيض المتوسط 1973، معرض بغداد الدولي 2002، المعرض القومي للفنون التشكيلية 2003، مهرجان الإبداع التشكيلي 2007. كما أصدر طايع كتابين أولهما بعنوان «الحروف الأولى .. دراسة في تاريخ الكتابة» والآخر بعنوان «الرسم بالقلم الرصاص». عمل منذ عام 1980 وحتى رحيله عام 2014 مخرجاً صحافياً فيث مجلة «الإذاعة والتلفزيون».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى