ياسمينة خضرا روائي في كوبا

انطوان جوكي

بعد رواية «ليلة الرئيس الأخيــــرة» التي انزلق فيهـــا تحت جلــد معمّر القذافي، قرر الكاتب الجزائري ياسمينة خضـــرا الابتعاد عن أجواء عالمنا العربي المسمومة، فحطّ رحاله في كوبا حيث كتب سيناريو فيلم «طريق العدو» الذي أخرجه مواطنه رشيد بوشارب. ومن هذه الإقامة التي دامت ثمانية أشهر، استقى أيضاً مادة روايته الجديدة، «لا يسكن الله هافانا»، التي صدرت حديثاً عن دار «جوليار» الباريسية، وتقع أحداثها في العاصمة الكوبية مباشرةً بعد فكّ أميركا الحصار الاقتصادي الذي فرضته على الكوبيين منذ عام 1962.
بطل الرواية وراويها، دون فـــويغــــو، مــــغنٍّ معروف في سن التاسعة والخمسين يحيي حفلاته الموسيقية في كباريه «بوينا فيستا» الشهـير. في مطلع الرواية نراه سعيداً ومتفائلاً بالحياة، ولا نعجب من ذلك، فمنذ سن العاشــــرة تشكّل الموسيقى عالمه، ومنذ خمسة وعشرين عاماً يعيش حلمه على خشبة أبرز ملاهي هافاما الليلية، غير مبالٍ بما يدور حوله: «أبحث دائماً عن الجانب الإيجابي في الأشياء فلا شك في امتلاكها هذا الجانب. أرى النصف الممتلئ من الكأس، والابتسامة فوق التكشيرة، والغضب كحماسة مشوّهة. العالم ليس مجبراً على أن يكون كاملاً، حريٌ بنا أن نجد طريقة تساعدنا على اقتناص حصّة من السعادة».
لكنّ حياة دون فويغو لن تلبث أن تنــقلب رأساً على عقب حين يبلّغه مدير «بوينا فيستا» أن الحزب الحاكم قرر خصخصة هذا الكباريه وتغيير إدارته وصرف العاملين فيه، فيجد نفسه بلا عمل بين ليلة وضحاها، لكنه يتشبّث بأسطورة شهرته ويأمل بالعثور بسرعة على فرصة للغناء في كباريه آخر. وحين يعجز عن ذلك، يسقط من الغيمة التي كان يعيش عليها ويتراءى له واقع محيطه المرير، أي مدينة تتراكم فيها المِحَن والأحزان بصمت: «هافانا ذابلة مثل صور في ألبوم قديم بقي مغلقاً خلال عقودٍ طويلة» حيث البؤس والتطيّرات والمراقبة البوليسية في كل مكان.
وفي منزل أخته حيث كان يأتي للنوم فقط في ساعة متقدمة من الليل، منذ طلاقه من زوجته، يضطّر دون فويغو فجأة إلى تحمّل صخب أولاد أخته الكثر والمزاج العكِر لزوجها المعوّق، ويكتشف محنة ابنه رودريغو الذي يعيش في المنزل ذاته ولا يحلم سوى بالسفر إلى فلوريدا.
وحين يبدأ اليأس بالتغلغل داخله، يتعرّف بالمصادفة إلى الفتاة الجميلة مايينسي التي قدمت إلى هافانا من قرية صيادين بعيدة، فتخلب قلبه فوراً إلى حد يجعله يكتشف على مشارف الشيخوخة حبّاً آخر غير حب الغناء. حبٌّ لا نرجسية فيه يستسلم كلياً له غير عابئ بفارق العمر بينه وبين هذه الفتاة الجَفولة بقدر ما هي فاتنة، وبالتالي بالخطر الذي يتهدد علاقته بها. ويجب انتظار سهرة احتفاء بفيديل كاسترو يدعوه إليها صديق له، كي يكتشف الجانب المخفي والمعتم من شخصية مايينسي، فيبدأ بحثاً مضنياً لفهم ماضيها الذي يخبّئ له – وللقارئ – مفاجآت كثيرة.
في ظاهرها، تبدو هذه الرواية إذاً عبارة عن بورتريه مؤثّر لمغنّ يعيش للموسيقى والغناء حصراً، ويحبّ الحياة ويتقبّلها مهما كانت آلامها، قبل أن يتطوّر هذا البورتريه مع تحوّل صاحـــبه، بفعل الحب، من رجل نرجسي لم يتحـرّك مركز عالمه على مدى عقود، إلى شخصية كريمة ومترفّعة، تتحلى بحضور البديهة وقدرة كبيرة على نكران الذات من أجل سعادة الآخرين.
ولكن من خلال قصة دون فويغو، سعى خضرا في الواقع إلى كتابة رواية مدينة من دون الوقوع في الكليشيهات والصور المنمّطة عنها. فإذ تحضر الشواطئ الفردوسية والسيارات الأميركية القديمة والسيجار كعناصر يتعذّر تجنّبها في رواية حول هافانا، إلا أن الكاتب لا يكتفي بها، بل ينجح بسرده السيّال في الإمساك بروح أبناء هذه المدينة عبر إظهار أهمية الموسيقى في ثقافتهم ومحاصرة طبيعة حياتهم الليلية. وفي هذا السياق، لا ينسى التوقف عند ندوب المرحلة الشيوعية التي تتجلى خصوصاً على جلد الشبّان الكوبيين الذين يعانون من البطالة وانسداد الأفق أمامهم، كابن دون فويغو، رودريغو، الذي «يكبر في بلدٍ يدفعه إلى الحلم بمكانٍ آخر، ويعاني من مأساة أبناء جيله المتروكين للشارع ولمصيرهم المجهول، مقتنعاً بأنه في حال استطاع الحصول على أي شيء فإن حرّاس الهيكل سيصادرونه منه». ولا ينسى خضرا أيضاً تصوير أزمة السكن في هذا البلد الذي تضاعف عدد سكانه بنسبة عشر مرات منذ عام 1959 من دون أن تتحـرّك عروض الإيجار، ما يفسـّر عيش أفراد جيلين أو ثلاثة من العائلة نفسها داخل منزلٍ واحد، كما هي الحال في منزل أخت دون فويغو.
نـشـيدٌ مُــهدى للـــناس المتواضعين الذين يعاندهم القدر، رواية خضرا هي أيضاً سفرٌ في بلد يعجّ بالمفارقات، يقود الكاتب خلاله تأمّل حنيني في الفتوّة الضائعة، توازنه بهجة الغناء والرقص والإيمان بغدٍ أفضل. وإذ نتعرّف جيداً في هذا النص إلى جزيرة كوبا كمجتمع وكيان سياسي بذاته، لا يسعنا عدم النظر إليها أيضاً كاستعارة لبلدانٍ أخرى، عربية خصوصاً، حيث لا مجال للترقّي الاجتماعي إلا بممارسة سياسة التملّق وتبجيل الأقوياء، وحيث تؤخذ القرارات الكبرى وفقاً للمصالح الخاصة.
لكن هذا لا يعني أن خطاب الرواية جّدي وقاتم. فكما في كل رواياته السابقة، يسيّر خضرا طرافةً عالية وسخرية لاذعة فيها، مطعّماً نصّها بحوارات آسرة وبأقوال حكمية رائعة واستعارات لا تحصى، وراسماً بمهـــاراته الكتابية المعهودة شخصيات غنيّة بالألوان، مثل دون فويغو طبعاً، ولكن أيضاً الشابة مايينــسي التي لن نفهم سبب انطوائها علـــى ذاتها وقسوتها، وبالتالي سبب جاذبيتها، إلا في نهاية النص، والعجوز بانشيتّو، عازف البوق العبقري الذي تخلّى عن شهرته الدولية للعيش كناسك برفقة كلبه وقنينة الكحول.
باختصــــار، يشيّد خضـــــرا في روايته الجديدة عالماً من العلاقات البـــشريـــة، الحمـــيمة والاجتــمــاعية والسياسية، نلجه على ضوء فلسفته الإنسانوية التي ما برح يصقلها ويعمّقها، روايةً بعد رواية، وهو ما يفسر وقع نصّه على نفوسنا الذي يعود أيضاً إلى حبكته المتينة ولغته المصفّاة إلى حد الإشراق.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى