«نيز: قلب الجنون» .. فيلم خارج العصر السينمائي

علي زراقط

في المشهد الافتتاحي من «نيز: قلب الجنون»، الفيلم البرازيلي تطرق الدكتورة نيز باب المستشفى، لا أحد يفتح لها، إلا أنها تصر فتطرقه بقوة أكبر وأكبر إلى أن يفتح الباب وتدخل إلى عالم الجنون المسجون خلف هذه البوابة الضخمة. الفيلم من إخراج روبيرتو برلينير، وهو مخرج عَمِل في الأفلام الوثائقية، ونقل الكثير من الأسلوب إلى هذا الفيلم الذي يبدو بناؤه كما لو كان وثائقياً مقاماً على فترة زمنية محددة يبدأ في مكان وينتهي فيه بلا كثير اكتراث إلى ما هو خارجه. فهو يشاهد الأحداث في حيّز معين، مكانياً وزمنياً. فلا يُعير انتباهاً كبيراً لما سبق ولحق هذه الفترة الزمنية، فيخلق عالماً خاصاً مبنياً على المشاهدات، يدخلنا إليه بلا تريث. يبدو هذا العالم غريباً وبعيداً في الوهلة الأولى. في النظرة الأولى نرى المرضى الهائمين بين الغرف وفي الحديقة على أنهم أجساد وحسب. إنهم «مجانين» هذه الستيغما (الوصمة) التي إذا ما رأيناها تلغي كل ما هو إنساني خلفها. الوجوه التي تمرّ أمام الكاميرا، وبالقرب من الممرضين والأطباء، تبدو في بادئ الأمر بلا ملامح. وفي هذه اللحظة تذكرت الوجوه التي تمر قرب شبابيك السيارات فيما نعبر شوارع المدينة، فنلغيها خلف ستيغما «المتسوّلين». تذكرت الأحياء المكتظة الفقيرة على أطراف المدينة، التي نلغيها من حساباتنا خلف ستيغما «عشوائيات»، أو غيرها الكثير من الصفات التي نسم بها كل ما نريده أن يختفي من حياتنا. فكأننا بذلك نغلق عليه باباً من الحديد السميك، كما أغلق المجتمع هذا الباب السميك على «المجانين» كي لا يراهم.
السينما/ المرآة
قد لا يكون لهذا الحديث صلة مباشرة بـ «السينما» كفن، إلا أن ما نتعلّمه من السينما أنها المرآة التي نرى فيها أنفسنا، التي تظهر مخاوفنا وشياطيننا وتعرضها على الشاشة. لذا يدخل الاستطراد في قلب الموضوع، وتصير الأفكار الهامشية المتولدة من مشاعر المشاهدة مشاعر أصيلة تتداخل مع السياق الحكائي للفيلم.
تدخل نيز (غلوريا بيريز) إلى مستشفى للأمراض العقلية والنفسية، وتحاول أن تحدث أثراً في طريقة العلاج من خلال النظر إلى المرضى على أنهم بشر يحق لهم أن يظهروا، أن يحكوا قصصهم، أن يخرجوا للعلن حتى ضمن «جنونهم». تمنحهم فرصة أن يعبروا عن أنفسهم ليصيروا أكثر قدرة على الاتصال مع مشاعرهم، منقذة إياهم من الطبيب الذي يقوم بالعلاج بواسطة الصدمات الكهربائية والجراحات الدماغية. رويداً رويداً تبدأ وصمة «المجانين» بالاختفاء، لتظهر من خلفها شخصيات متعددة، كل منهم له هواجسه وجماله، كل منهم له طباعه وخصائصه، كل له قصته وطريقته في الحب والكراهية.
عمل غير معاصر
قد لا يكون الفيلم تحفة على الصعيد الفني، ولا يمكننا أن نقول إنه فيلم ينتمي إلى هذا العصر السينمائي. في هذا العصر السينمائي الذي صار أكثر ميلاً إلى الغرابة، إلى القسوة، إلى التفكيك، إلى التشفير، أن تأخذ مجموعة من الشخصيات الشيزوفرينية وتحاول أن تطبّع نظرة المشاهد إليهم، طامحاً أن تنسيه في لحظة من اللحظات أنهم «مجانين»، هو عمل غير معاصر. أغلب الأفلام المعاصرة، تعتمد على المثال المعاكس، أن تأخذ شخصيات عادية فتلويها، تفككها، تشفّرها إلى أن تظهر ما فيها من جنون. على هذا الصعيد يبدو الفيلم قديماً نوعاً ما، إنه ينتمي إلى نوع من الأفلام الإنسانية العاطفية التي لم نعد نرى الكثير منها مؤخراً. فلنقل إن هذا الفيلم يحاول أن يعرض علينا استعادة الثقة بالبشر، حيث إن بعضهم قام بأعمال عظيمة منهم هذه المرأة المدعوة نيز دي سيليفييرا، التي دخلت إلى مستشفى للأمراض النفسية والعقلية فحوّلتها معملاً للفن والإبداع وللتقارب الإنساني والمحبة.
إلا أن الفيلم المبني على قصة حقيقية، لا يمنحنا الفرصة للتعرف إلى أوجاع نيز الحقيقية، هي التي دخلت المعتقل السياسي بسبب كونها شيوعية لمدة ست سنوات. لم نتعرّف إلى صراعاتها الداخلية، أو إلى سبب إصرارها على طريقتها في العلاج، ولماذا نبذت الطريقة العنيفة، وما هي علاقتها بزوجها وكيف استطاعت أن تحميها برغم السجن. لا يدخل الفيلم في تفاصيل هذه الأمور، هو يكتفي برسم بورتريه للإنجاز العلمي والعملي لهذه الطبيبة، واستعراض لنماذج من مرضاها. كأن الفيلم يتوسّل هذه شخصية الدكتورة ليكشف الوصمة، فيفتح الستارة عن حيوات هؤلاء الناس الذين يحتاجون لمن يراهم كي يكونوا، فأصبحوا فنانين.
فيلم ممتع ومثير للكثير من المشاعر الانسانية، ومثير للمقارنات مع الواقع الذي نعيشه كل يوم، والأسئلة حول الأثر الذي نتركه فيما حولنا، وعن مقدار الحب الذي ننشره في محيطنا، إلا أنه ناقص. ينقص الفيلم كوابيس بطلته، ومخاوفها وهذا ما يجعله يفقد الكثير.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى