فؤاد نعيم يقتحم «عالم» يونيسكو … بجمالية التراجيكوميديا

عبده وازن

يعود فؤاد نعيم إلى الإخراج المسرحي، شغفه الأول، بعد احترافه الرسم في الأعوام الأخيرة وإقامته معارض شخصية عبّرت عن تجربة عميقة وشخصية في عالم الشكل واللون. أمّا عودته إلى المسرح فشاءها من خلال نص فريد و «صعب» لأحد رواد المسرح العبثي العالمي أوجين يونيسكو، وهو «الملك يموت» (1962). هذا النص كان ترجمه في الستينات الشاعر أنسي الحاج إلى العربية الفصحى وأخرجه المسرحي الرائد منير أبو دبس وكان بمثابة حدث في تاريخ المسرح اللبناني الحديث.
أعاد فؤاد نعيم ترجمة نص يونيسكو بالعامية متصرفاً به أو مقتبساً إياه بحرية ووفق رؤيته الإخراجية إليه. واللافت أنه اختار مقاربة القضية التي يعالجها النص وهي سقوط الملك بيرنجيه الأول أو الديكتاتور، في ضوء سقوط الديكتاتورية في العالم العربي وسواه. من هنا يبدو نص يونيسكو راهناً جداً، فهو أصلاً لم يسمّ المملكة التي تنهار ولا الديكتاتور الذي يحتضر أو يموت، حتى العصر جعله غير محدد ولو بدا يميل إلى أن يكون قروسطياً.
فؤاد نعيم عرّى المسرح تقريباً من الديكور ليتخلص قدر الإمكان من عبء الطابع التاريخي والمكاني، فحافظ على الكرسي الملكي وعلى ملابس الملك والملكتين مبدئياً وجعل بقية الشخصيات تدور في أفق المملكة المنهارة. وقد سلك إزاء النص الذي يعد الأكثر «كلاسيكية» شكلاً و «إنسانية» والأقل عبثية ومجانية بين أعمال يونيسكو، سلوكاً تراجيكوميدياً، بل هو غذى هذا الاتجاه ليخلص إلى صيغة خاصة، فيها من التراجيديا التي أرادها يونيسكو (الشخصيات، المناخ، الصراعات…) ما فيها من الكوميديا الجارحة والعبثية. وعلاوة على اختصاره النص واقتباسه الذكي لحواراته ووقائعه من دون أن يخونه، أضاف إليه بضع لمسات لبنانية ليربطه قليلاً بالواقع اللبناني فأدخل على سبيل المثل، في شكل عابر، مسألة النفايات (الزبالة) التي يعاني منها اللبنانيون وبعض التعابير الساخرة (مثل بوظة على حمص)… أما الضربة المميزة فتبدت في إخضاع النص لمزاج تجريبي ولكن من دون أن يغالي المخرج في هذه التجريبية، بل هو ظل على حافتها. وقد نجح تماماً في اعتماد هذه الحيلة الإخراجية ليحدّث البنية الدرامية للنص الذي أضحى من التراث الكلاسيكي للمسرح العبثي، ويضفي على الصيغة الإخراجية مقداراً من الفانتازية الجميلة والحية. ومن هذه الحيل البديعة دخول المخرج نفسه إلى الخشبة في لقطة مفاجئة وسحبه كرسي الملك (كرسي الرئاسة الشاغر في لبنان؟) تعبيراً عن سقوط مملكته أو تداعيها. ومن اللقطات التجريبية المبتكرة لقطة تحول نوافذ القصر (كما في النص الأصلي) إلى باب متحرك مع نافذة يطل منها الملك في ما يشبه اللعب الدرامي الذي يجيده الممثل جورج خباز الذي أدى هذا الدور ببراعة. أما اللقطة الأجمل فهي اللقطة التي يتعرى فيها الملك من ثيابه ويبقى في بيجامته البيضاء. وهنا تبلغ السخرية التراجيكوميدية ذروتها: لم يفقد الملك جيشه وأرضه وقصره ومملكته فقط بل فقد أيضاً ثيابه، أصبح عارياً في ما يشبه الكفن (البيجاما البيضاء). ووفق رؤية يونيسكو لم يعرّ فؤاد نعيم الملك من إنسانيته على رغم ماضيه الديكتاتوري، بل جعله أمام الجمهور إنساناً يتخبط بذنوبه وخوفه ويقاوم فكرة إقباله على الموت رافضاً إياها ومتعلقاً ببقية حياة مهما ضؤلت. ومثلما وصف يونيسكو هذه المسرحية قائلاً أنها «محاولة لتعلم الموت»، سعى نعيم إلى جعل موت الملك أمثولة في مكابدة الاحتضار وتقبله ولو على مضض والوقوف في وجهه. وليست السخرية هنا إلا وسيلة لمقاومة الموت الذي أصبح حقيقة في اللحظات الأخيرة من حياة الملك.
كان لا بد للمسرح وفق رؤية فؤاد نعيم الطليعية من أن يبدو شبه فارغ منذ اللحظات الأولى، كأن ديكور القصر الذي يختفي شيئاً فشيئاً في النص الأصلي مع موت الملك، اختفى ولم يبق منه سوى تفاصيل. هذه فكرة رئيسية في الصيغة التي اقترحها المخرج. لكن الشخصيات التي تحيط بالملك هي التي تملأ الخشبة، وترسم السينوغرافيا. وحين نقول شخصيات نقول ممثلين، بحركتهم الجماعية والفردية وحوارتهم. فالملك محاط بما يشبه الحاشية: الملكة مارغريت، زوجته الأولى (برناديت حديب)، الملكة ماري زوجته الثانية (باتريسيا سميرا)، الطبيب (موريس معلوف)، الخادمة (مي أوغدين سميث)، الحارس (وليد جابر). لكنها ليست حاشية عادية، فاحتضار الملك وسقوط المملكة والانهيار التدريجي للقصر (حتى البرد بدا يغزوه) جعلت الحاشية في حال من الاضطراب ودفعت أعضاءها ليحيوا صراعاً معلناً. الزوجة مارغريت تعمل على تهيئة الملك لموته، هي الزوجة الأولى القاسية وغير المتآلفة مع الزوجة الثانية، واقعية وعقلانية، تتقبل فكرة موت زوجها ببرود، واضحة وحازمة تقنع الملك بحالته المأسوية: لا ممكلة ولا جيش ولا سلطة. الملكة ماري تختلف عنها تماماً، عاطفية، حنون، تبكي وتتأثر وترفض قبول حقيقة احتضار الملك وتصديق انهيار الممكلة، وتحاول أن تدعمه نفسياً ومعنوياً داعية إياه إلى النهوض ومواجهة زوجته الأولى وجماعتها. الطبيب الذي هو في آن واحد، جراح وسفاح ينفذ أحكام الإعدام (يحمل بيده ما يشبه الساطور)، ومنجّم يستشير الكواكب، يميل إلى الزوجة الأولى وينفذ رغباتها ويساعدها في تعظيم مرض الملك وترهيبه. جولييت، خادمة وممرضة وطباخة وتعنى بالحديقة أيضاً، وربما ترمز إلى «الشعب» لا سيما أن الملك على رغم مرضه، يصغي إلى قصصها الخاصة والعائلية. أما الحارس فيبدو كأنه على الحياد، لا يتدخل ولا ينفذ أوامر الملك ووظيفته الوحيدة إعلان البيانات.
في وسط هذا الجو المتلبد والمضطرب والحافل بالصراعات الصغيرة، يكابد الملك لحظات الاحتضار رافضاً الاقتناع بأنه يحتضر، لكنه لا يتمالك عن معاتبة نفسه والشكوى من مرضه ومن العالم والحياة والمملكة، يعترف بالتراجع ويرفض الاستسلام… هكذا شاءه يونيسكو وجسّده نعيم، إنساناً يعاني مثل أي إنسان، إنساناً يتذكر ماضيه ويدرك أنه لم يبق منه سوى كونه إنساناً، ما يعني في الختام استسلامه…
اعتمد المخرج فرقة موسيقية صغيرة (محمد عقيل ونبيل الأحمر وعماد حشيشو) رافقت المسرحية وحركة الممثلين، وكان لعزفها المتقطع دور أساس في بناء الحركة والتعبير عن مواقف عدة، وخلق مناخاً بدا نابعاً من قلب العرض وليس مفروضاً عليه من خارج. أما الإضاءة فتولت تصميمها الفنانة منى كنيعو صاحبة الخبرة العميقة والطويلة في التقنيات المسرحية. أما الممثلون فكان في طليعتهم جورج خباز وبرناديت حديب، الأول لم يتخلّ عن تلقائيته وبراعته اللتين عرف بهما، لكنه بدا هنا منضبطاً تحت رقابة المخرج، فهذب أداءه وشذب الكثير من مبالغاته التي تظهر عندما يكون هو المخرج والبطل والكاتب… ممثل موهوب جداً، بل هو ظاهرة يمكن التوقف عندها شرط أن يعمل في إدارة مخرج فلا يفلت على هواه. ولعل فيلم «غدي» الذي أنجزه هو من أبرز الأفلام التي شهدتها السينما اللبنانية في الفترة الأخيرة. أما برناديت حديب فيمكن وصفها بـ «نجمة» هذا العرض تمثيلياً، ممثلة قديرة، نجحت في التقاط إيقاع المسرحية عبر الشخصية التي أدتها ببراعة ناسجة خيوطاً متينة مع سائر الشخصيات، لا سيما الملك والملكة ماري… موريس معلوف المخرج الطليعي، ممثل قدير جداً وبارع في منح الشخصية تلاوينها وأبعادها الدرامية.
قُدّمت مسرحية «الملك يموت» لليلة واحدة مفتتحة مهرجان مسرح المدينة الذي أسسته وتديره الفنانة الكبيرة نضال الأشقر، وسيعاد تقديمها لاحقاً على خشبة المسرح نفسه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى