تناقضات العالم وأهله في قصص «ليلة للغنا»

يسري عبد الله

في المجموعة القصصية «ليلة للغنا» (دار بدائل)، يتوافر الكاتب المصري رضا البهَّات على جملة من الحكايات التي لا تزال قادرة على استدعاء الدهشة، بوصفها فعلاً ملازماً للحكاية، والبدء مما هو إنساني في مجموعة تتشكل من أربع عشرة قصة قصيرة، تعقبها ثلاث قصص محكية للفتيان والفتيات هي: «الجميلة تتزوج الديك الشركسي»، «حكاية الأميرة وابن الحداد»، «لعبة الغابة».
واللافت أنّ «حكايات للفتية والفتيات» في استدعائها نمط الحكي الأسطوري والفنتازي، تبدو متممة للرؤية السردية في المجموعة في اتكائها على الواقعي وصبغه بطابع جمالي خاص، والنظر إلى المتعيّن من زوايا تخييلية مختلفة، بدءاً من «أجمل بنت في الدفعة»؛ في الاستهلال، وصولاً إلى «جيبة ديرتي» في الختام.
ثمّة محاولة للتعبير الجمالي في المجموعة عن واقع متحول، لكنّه لا يزال فاعلاً، عبر التقاطات إنسانية تملك حضورها في حياة رواة يتنوّع حكيهم ما بين الحكي بضمير المتكلم؛ كما في قصص «أجمل بنت في الدفعة»، «عمود الإيمان»، «ليلة للغنا»، «مقعد خال»، «ممر مظلم»، «ونسة»، «عيون»، «القمر وكيس الطحين»، «تشابك بالإصبعين»، «جيبة ديرتي»، أو بضمير الغائب؛ كما في قصص «الريس حسنين»، «آسفة»، «الخزينة»، «امرأة في الزحام».
في «أجمل بنت في الدفعة»، تلوح أمل ويلوح معها زمن سبعيني بامتياز. وعلى رغم أنها لم تكن مثل الرفاق في وعيها السياسي، لكنها كانت شفافة مثل حلم. هكذا يقدمها السارد الذي يبدو متورطاً في الحكاية وجزءاً مركزياً منها، وحين يلقاها بعد سنوات طوال لم تكن التغيرات التي طاولتها كثيرة، بينما تبدل هو قليلاً، وصارا معاً محاصرين براهن من القبح والعتامة.
وفي «الريس حسنين»، يحتل الصبية الصغار حيّز السرد. يبدو أنهم قلقون على الريس حسنين العجلاتي؛ لأنّ متعتهم الوحيدة في عالمهم القاحل باتت رهناً بهذا الشخص ودراجاته التي يؤجرها لهم بمحبة وتسامح شديدين. لذا لم يكن غريباً أن يذهبوا إلى المسجد الكبير في الحي الراقي المقابل لحيّهم البائس؛ عسى أن يكون دعاؤهم أكثر جدوى. لكنّ هيئاتهم فضحتهم: «هرع نحوهم الرجال الواقفون على الدرج، لم يتكلموا، واكتفوا بثني أكفهم وفردها في وجوهمم علامة أن يرجعوا» (ص 18).
يشير الضابط نبيل، الذي فقد إحدى يديه وقدميه في الحرب في قصة «عمود الإيمان»، إلى بشر يقاومون الموت بالحياة. هي قصة لا تحوي صراخاً أيديولوجياً، بل تنطلق من وعي بالضرورة الحياتية المعيشة، من محبة العالم، عبر عيني سارد متورط في الحكاية، يبدو صديقاً لبطلها المركزي، الذي لا نعرف اسمه إلا بعد حين، على اعتبار أن السارد لا يعرف أكثر من قرائه، ويتوصل إلى الحقيقة معهم في الوقت ذاته. يبدو نبيل مفعماً بالحيوية، على رغم بتر بعض أعضائه، وهو الوحيد الذي يمتلك خصوصية مع الفتيات في نادي المحاربين القدماء، إذ يتخلين عن وقارهن معه، ويسألنه في كل شيء، ويضحكن معه كثيراً. ومع كلّ المرارات التي تسكن الروح، إلا أنه يظلّ مولعاً بالحكي والنساء والونس والسخرية والبهجات الصغيرة، في نص مقطر وإنساني وعذب.
تبدو «ليلة للغنا» بمثابة القصة المركزية في المجموعة، لا لكونها تتصدر الغلاف، ولكن لأنها تحمل الدلالة الكلية للنص. إنها تعبر عن مخزونه الإنساني الوافر، واستيلاده الدهشة من رحم حكايا واقعية بامتياز.
ثمة سارد يحكي عن «الأغراب»، الذين يسكنون قريباً من المكان، عن عالم يسكنه «الغجر» الذين يبدون في الوعي الجمعي لأبناء المكان علامة على التحلل من أي قيمة. هنا تختلط الفنتازيا بالحقيقة، ومن رحمهما تخرج جورية الساحرة مثل ملاك، المغوية مثل شيطان، ولكن لا رؤية حدية للعالم في النص، ولا أحكام قيمة، إنما متسّع من المدلولات والحكايات التي لا تنتهي عن بشر مختلفين، وامرأة هي موطن الغواية. تستقطب جورية الفاتنة شاباً من القرية؛ هو شقيق السارد، ويجتمع الأهل كل مساء لمناقشة الأمر، ثم ينفضون من دون فعل حقيقي. يروون بعض الحكايات التي تخلق حالاً من إشباع السرد وترصيعه بالحكايات الفرعية: «هكذا تبددت الليلة أيضاً من دون طائل، وتهيأوا للرحيل. اتفقوا على موعد آخر، بعدما منحوا زوجة أخي بعض المال، غير أنني من تلك الليلة عرفت أنهم يكذبون» (ص 42). كأنّ جورية هي المرأة الحلم التي راودتهم جميعاً، غير أن المجتمعات المغلقة تظل أسيرة تناقضات فادحة، تؤثر في حركة أفرادها ونوازعهم الشخصية.
في «مقعد خال»، تُمثّل صباح الشخصية المحرّكة للسرد، والدافعة به صوب الأمام. السارد- الذي يذهب لأداء الخدمة العامة في إحدى القرى النائية لتعليم بعض أبنائها من الأميين- يجد عالماً مختلفاً. هامش يكمن خلف القاع، فقر وجهل وظلم اجتماعي، وبشر على الحافة. وفي الفصل الدراسي يقابل سيدات وفتيات لا حيلة لهنّ سوى الانتظار. وعلى رغم تقدم صباح في الدراسة، نجد أنها لم تغب فجأة مثلما ظهرت فجأة، لعلَّها تزوَّجت، غير أن سؤالاً فطرياً يخرج من قروية بسيطة يبدو جوهراً للنص والحكاية معاً. وهذا ما نقرأه في مختتم بديع للسرد: «فين صباح… معدتش بتيجي ليه؟ اكتفت الحاضرات بالابتسام. غير واحدة رفعت يدها، ولم أكن سألت عن شيء يخص الدرس. قالت المرأة إنها كانت تظن الحروف بكثرة عددها في الكتب، لكنها اكتشفت أنها 28 حرفاً فقط… طلعوا 28 حرفاً بيعملوا كل حاجة في الدنيا. في الحقيقة كانت أول مرة أفكر في أن الـ28 حرفاً لا تصنع الكلمات فقط، بل كل حاجة في الدنيا. كل حاجة». (ص 52). وفي «ممر مظلم»؛ يبدو شبق الممرض بالطبيبة خلاصاً من نوع آخر، ويبدو التواطؤ بالصمت الذي مارسته تعبيراً عن احتياج نفسي وجسدي، في عالم مسكون بروائح الأجساد الميتة، ومواء القطط، والقمامة المقززة. وتتواتر هذه المحسوسات في قصص أخرى، بحيث يصير «المستشفى» أحد الأمكنة المركزية داخل المجموعة بما تحويه من تفاعلات إنسانية خصبة.
أما في قصة «الخزينة» فيلوح «الرجل البركة» (صارت توبته مضرب مثل) ولا يجد الناس غيره كي يفتح خزينة العمدة التي ضاع مفتاحها. وفي «آسفة»؛ نصبح أمام قصة تبدو مقطعاً من نص سردي طويل. وفي «عيون»؛ ثمة أجساد ميتة وأخرى تدب فيها الحياة، عالم متغير باستمرار، ويتماس العنوان هنا مع أغنية شهيرة للمطرب محمد منير.
في «جيبة ديرتي»، يبدو «حمدي» علامة على تحول اجتماعي عاصف، يحيل حياة زوجته منى، وابنتهما إلى جحيم، ويصبح هاجس المال والاستثمار في البورصة مقروناً بهوس ديني لديه.
تروي قصص هذه المجموعة عن عالم يتجادل فيه الموت والحياة، والمرض والصحة، والجدب والعطاء، موصول بسياق متحول، وإطار من التدين الشكلي، والهوسين الديني والرأسمالي الاستهلاكي، ثمة حكايات إنسانية ضافية تنمو في متن «ليلة للغنا»، تشد قارئها إلى عالم أكثر جمالاً ورحابة وحرية.

(الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى