الحب كعلاج تخيّلي لامرأة متّهمة بالجنون

سليم البيك

ليس بالضرورة أن يكون الفيلم المبني على نص روائي أقل قيمة من النصّ ذاته، والتقييم المنحاز للأدب في ذلك يقوم غالباً على أنّ الفيلم هو الذي يلجأ إلى الرواية ويستعير منها وليس العكس، لكن للاتجاه الواحد في الاستعارة هنا أسباب تقنية وبنيوية، أي تدخل في بنية إنجاز الفيلم أو الرواية، فالأخيرة تحتاج إلى إتاحات واحتمالات أوسع للحبكة والشخصيات، وهي تحتاج لأن تبني حبكتها الخاصة بها، بخلاف الفيلم الذي غالباً ما يستفيد، في جانبه الحكائي/الدرامي، من الحبكة في العمل الأدبي، ومن قدرة الروائي على توليف الحبكات، التي تفوق غالباً قدرة السينمائي الذي ينشغل أساساً أثناء إنجاز عمله السينمائي في الجانب البصري.
ومخرج كالأمريكي ستانلي كوبريك استطاع في أفلامه التي كانت نقلاً عن نص روائي، وهي معظم أفلامه، أن يثبت أن الفيلم يستطيع أن يأخذ حبكته من الرواية ويتفوّق عليها في تقديم الحكاية ذاتها. لكن لنبقى في فرنسا، وفي مهرجان «كان» الأخير الذي نافس فيلم هذه المقالة على السعفة الذهبية فيه، فيحيلنا ملصق المهرجان، وهو من لقطة لفيلم «احتقار» للفرنسي جان لوك غودار، يحيلنا إلى الفيلم الذي نقل به غودار رواية ألبيرتو مورافيا التي حملت العنوان ذاته، إلى السينما، جاعلاً، بخلاف الأمثلة السابقة، فيلماً عظيماً من رواية عظيمة.
ميلينا آغوس، روائية إيطالية من سردينيا، أصدرت رواية قصيرة عام 2006 بعنوان غريب قد نترجمه حرفياً إلى «وجع الحصى»، وقد حافظ الفيلم الفرنسي على العنوان ذاته، للتقارب الكبير بين الفرنسية والإيطالية ربما، بل حافظ على مفرداته ذاتها. لكن العنوان أتى مختلفاً بنسخته الإنكليزية، فيلماً ورواية، فكان «من أرض القمر». وكذلك بالعربية تم تغيير عنوان الرواية إلى «حب في سردينيا».
نحن هنا في حال أقرب لرواية/فيلم «احتقار»، في الحالتين الرواية إيطالية والفيلم فرنسي، وبالحديث عن الفيلم المعروض حالياً في الصالات الفرنسية، كذلك كانت الرواية ناجحة ويبدو أن الفيلم سيكون ناجحاً كذلك، وإن لم نبلغ بمستوى الحديث عنهما ما يمكن أن تناله رواية لكاتب كمورافيا وفيلم لمخرج كغودار.
الفيلم الذي أخرجته الفرنسية نيكول غارسيا، المعروفة أساساً كممثلة، صاحبة «بلاس فاندوم»، اعتمد بشكل جزئي وخفيف على الرواية، في نصفها الأول تحديداً، مستخدماً تقنية الفلاش باك، الموجودة في الرواية ذاتها، استخدمها مرّة واحدة بشكل يُزيل أي قيمة لسؤال «ما الذي يحصل في النهاية؟»، فيبدأ من مرحلة متقدّمة في الأحداث، ثم يعود ليبدأ الحكاية من سنين قبل الحدث الذي صرنا نعرفه، يصل إليه ويكمل منه إلى الأحداث اللاحقة، ويكون الفيلم، آنذاك، في نهاياته. وتحتاج هذه التقنية جرأة من صانعها إذ يُوهم المُشاهدَ بأنّ لا عناصر مفاجئة فيما سيشاهده طالما أنه شاهدَ من البداية ما سيحصل أخيراً. وهذا ما لجأ إليه الأمريكي ديفيد فينشر في فيلمه قبل سنتين «فتاة راحلة»، والمأخوذ كذلك عن رواية بالاسم ذاته وناجحة.
«وجع الحصى» هو الأفضل في السيرة السينمائية لمخرجته، ومن بين الأفضل لبطلته ماريون كوتيار، بأدائها الرائع. أدّت دور غابرييل، امرأة من عائلة برجوازية وقروية، من الجنوب الفرنسي، في خمسينيات القرن الماضي، تحرج أسرتها بتصرفاتها الطائشة والفضائحية، كأن تتعرى خلف نافذتها أمام مزارعين يعملون لدى أبيها في الحقل، وتحرّشها بأستاذ في القرية الذي يعيرها روايات لتقرأها، هذا وغيره جعل أمّها تحاول نقلها إلى مصحّ لكونها، بحسبهم، مجنونة، فترفض غابرييل. تلاحظ الأم لاحقاً إعجاب أحد المزارعين، خوسيه، وهو من الإسبان الجمهوريين الذين لجأوا إلى فرنسا هرباً من حكم الديكتاتور فرانكو، لاحظت إعجابه بابنتها فاقترحت عليه أن يتزوجها، وفعل.
قبل الزواج تخبر غابرييل خوسيه بأنّها لا تحبه ولن تحبه أبداً. وهذه العبارة مفتاحيّة لدى غابرييل التي كان الحب في حياتها هو الأساس في تكوين شخصيتها، وبالتالي أمزجتها، فحياتها مع رجل لا تحبّه، وإن كان طيّباً، كانت حياةً مريضة. فطوال الفيلم، ما يحدّد حالتها النفسية هو مدى قربها أو بعدها عن الحب الذي تريده، قد يكون حقيقياً هذا الحب وقد يكون متخيَّلاً. ففي البداية كانت تتصرف ويُنظر لها كمجنونة حين كانت تحب أستاذها، وتكتب له رسائل لا يقبل تلقيها كونه متزوّجا، ثم بعدها تزوّجت، وبقيت على حالة الاضطراب النفسي، كأن تطلب من زوجها أن يمارس معها الحب مقابل المال فقط، بعدما أخبرها بأنه يفرّغ رغباته الجنسية في بيوت الدعارة لرفضها ممارسة الحب معه، فوضعت آنذاك مساحيق وارتدت ملابس كبائعات الهوى وأشارت له بأن يضع النقود على الطاولة. في مرحلة ثالثة من الفيلم يأخذها زوجها إلى مستشفى في سويسرا، هناك فقط يستطيعون معالجتها من الحصى في كليتها (من هنا أتى اسم الفيلم/الرواية) كي تستطيع إنجاب الأطفال، وهو مستشفى ومنتجع تبقى فيه لأسابيع، هناك تتعرف على آندريه (لوي غاريل)، جندي فرنسي مصاب من حرب الهند الصينية، تقع في حبه، يختفي عنها السلوك المقترن بحالة الجنون، تصير امرأة هادئة نسبياً، تحب رجلاً وتحب البقاء إلى جانبه طوال الوقت. في مرحلة رابعة من الفيلم يأتي زوجها ويعيدها إلى بيتها بعد انتهاء علاجها، تنجب طفلاً، تعود إلى حالتها المضطربة بعدما بعدت عن حبيبها، ترسل له العديد من الرسائل وتنتظر طويلاً بدون أن يصلها شيء منه، ترسل له تخبره بأن طفلها هو منه، لا يرد، أخيراً تعود لها جميع رسائلها فتنهار أعصابها.
في مرحلة لاحقة ندرك أنّ الكثير مما عاشته كان يدور في رأسها وحسب، فيما يخص علاقتها مع آندريه تحديداً، كأنّ الحب الذي بحثت عنه في قريتها، مع أستاذها، ثم رفضها لزوجها لأنها لن تحبه أبداً، ثم تعرّفها على آندريه الذي لم يرد علاقة معها كونها متزوّجة، كأن الحب الذي أرادته لم تعشه في غير مخيلتها، فأمضت حياتها كزوجة مخلصة إنّما مرهقة نفسياً. الوجع الذي عانت منه بسبب الحصى في كليتها تعالجت منه في المستشفى، لكنها هناك كذلك تعالجت من حالة فقدان الحب، إنما كان علاجاً خيالياً، كانت مدركة أنها هناك لتتعالج، إنّما بإيجاد حب تعيشه كما تريده، كما تقرأه في الروايات، وهي قارئة نهمة، فوجدت الحب، خيالياً، في آندريه الذي أرادت الهرب معه ورفض. ففرغت الكثير من مشاعرها في رسائل حوت نصوصاً أدبية تحكي عن شدّة الحب.
الحكاية في الفيلم جميلة ومتقنة، وكذلك أداء الشخصيات، كوتيار تحديداً، والتصوير كذلك بظلاله وإضاءته وإطاراته، العري المُصوَّر بعفوية، حيث براءة غابرييل، في البيت وفي البحيرة، حتى وهي تُظهر نفسها عارية خلف نافذتها، طغت هذه البراءة على أي توصيف آخر لهذه الامرأة الحساسة والحسيّة. يصفها زوجها بعد ما عاناه منها بأنها «شريرة» لكن لم يبدُ منها ما يدعم هذا التوصيف، سلوكه الدمث معها وكرمه، من بداية علاقتهما حتى نهاية الفيلم، أظهر أنّها لم تكن بنظره فعلاً شريرة، بل امرأة لا تحبه، وتبادله الاحترام، امرأة تعيش حياة غير التي تريدها، امرأة تبحث عن حبيب، وليس هذا زوجها الذي حرصت على أن تكون لطيفة معه قدر الإمكان. تقول أم غابرييل بأنّ ابنتها «تحتاج إلى رجل في حياتها»، الحقيقة أن ما كانت تحتاجه هو رجل تحبّه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى