المهندس…للقاص أحمد اولاد عيسى

 

خاص (الجسرة)

 
الصدمة؟ هل أقول الصدمة؟ الأمر يتجاوز ذلك بكثير. هذا توصيف في حدوده الدنيا لو تعلمون. ولو كنتم في موقعي، وأحسستم بالدوار والغثيان اللذين سيطرا علي لحظة وقوع بصري عليه لفتشتم في قاموس اللغة جيدا بحثا عن توصيف آخر بدل الذي اكتفيت به. فما إن رأيته على المنصة جالسا على يمين الوزير في التعمير والسكنى وإعداد المجال، حتى كدت أخر من طولي، وأفقد توازني ورباطة جأشي من شدة الغضب وهول الصدمة. ولم أدر كيف تحاملت على نفسي ولم أقذف التلفاز بما في يدي. كان جالسا إلى جوار الوزير، مالئا كرسيه كما لو أنه يحق له الجلوس حيث هو، وقد حف بهما من على الجانبين ثلة من رؤساء المصالح، جيء بهم لتقديم عروض في المخطط الهام الذي تنوي الوزارة إقامته على التوسعة الجديدة للعاصمة الإدارية، وذلك خلال اجتماع رسمي بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للمهندس المعماري، والذي دأبت الوزارة نفسها الإشراف عليه بتغطية إعلامية واسعة، بثت منها شذرات في نشرات الأخبار المسائية تحت شعار: مخطط التوسعة المعمارية الجديد: أصالة المعمار المحلي ونبوغ المهندس المغربي.. وبطبيعة الحال كان أخونا ضمن فريق “المهندسين النوابغ” .يا للصدمة. ياللحسرة!
نعم. كانت صدمة بكل المقاييس بالنسبة لي. صدمة قوية أثارت حفيظتي. وكدرت مزاجي. ولا أخفيكم أن ثمة ألما دفينا اعتصر قلبي “المريض”. أحسست بمغص أسفل البطن وفوق الحوض سرى كتيار صاعق بمعيي الغليظ فأحدث قرقرة ف”انفجارا”على شكل قنبلة ريحية كريهة أزكمت أنفي وإن كانت مني. كل ذلك حدث فجأة حين رأيته، مساء ذلك اليوم على نشرة الأخبار المسائية وهو متربع على أريكة مريحة في جلسة مهيبة بجانب السيد الوزير .
أهو الحسد؟ حظ النفس الخبيثة؟ ممكن.
لكن ما ينبغي لكم معرفته، و هو ما أود منكم، صادقا، أن تعرفوه كما عرفته، وحينما ستعرفون ستعذرونني وستعلمون سر سريان ذلك “التيار ” القوي اللاإرادي في معيي الغليظ، والذي أحدث ما أحدث، حين سأطلعكم على جزئية صغيرة من حياته، عن شخصيته المتزلفة الوصولية ستتأكدون أن وصف “الصدمة “هو وصف مخفف، ولربما عاتبتموني قائلين: لِمَ لَمْ تصفها ب”الزلزال” مثلا؟
قلتم الزلزال؟
نعم. الزلزال. هذا هو الوصف القريب لما وقع. زلزال رهيب على سلم القيم.
لكن لم هذا التحامل على الرجل؟ قد تسألون.
دعوني أضعكم في الصورة، وهي التي قفزت للتو من الذاكرة جاءت مباشرة بعد ظهوره المستفز على شاشة التلفاز (وكنت قد أزحته منها لسنين عديدة).. فالرجل جاورني وجاورته قرابة عشرين سنة أو يزيد، وأعرف عنه الشاذة والفاذة. وهو ما يعطيني الحق في الحكم عليه ونعته بالذي نعته: وصولي متزلف، انتهازي متسلق، مغامر محب لبلوغ المراتب العليا، وإن بطرق خبيثة، حتى وإن دعت الغاية بيع العرض والذمة والعياذ بالله.
منذ الصغر كان مولعا بمسح “الكابة” حتى ولو لم أملكها.
لكن ما شأنك أنت؟ وكيف أقحمت نفسك في المسألة؟
اسمحوا لي بحكي القصة من أولها حتى تفهموا سر هذا “التحامل” ..
فهذا الذي رأيتموه وقد صار مهندسا،”داير فيها معلم”، لم يكن ليصل إلى ربع قامة خنصري الصغير في علم الهندسة والمعمار. المجال العلمي الوحيد المشترك بيننا، فكما سبق أن قلت لكم أعرفه مذ كان تلميذا “بليدا” بالمدرسة التي جمعتني وإياه في السنة الأولى ابتدائي في أواخر ستينيات القرن الماضي. كانت المدارس العمومية آنذاك منابر للعلم والمعرفة لسائر التلاميذ، لا فرق بين الفقراء والأغنياء إلا بالنبوغ والذكاء. زميلي المهندس هذا كان رفيقا لي منذ الصغر، لصيقا بي في المدر والحضر. لم يفارقني إلا حين اكتملت دورة التخرج من المدرسة العليا للمهندسين، فطوحوا بي إلى تخوم الصحراء، وأوصوا به ليظل في كنف الرعاية في قلب العاصمة تحت الأضواء، ينتظر دوره في الترقي والارتقاء، حتى وإن كان بليدا فريدا في بلادته، وأنا على ذلك من الشاهدين.
منذ الصغر كنت أكتب له كل الإجابات، وأنسخها له ليستفيد من العلامة الكاملة مقابل سندويشات لذيذة كان يحضرها لي من منزله الفخم بالضيعة الكبيرة، ذات السياج العالي، والمجاري المائية العذبة، والحديقة الغناء الممتعة بمسبحها الفسيح الذي كنا نستمتع فيه أيام عطل الصيف الطويلة الحارة، رفقة أخته الوحيدة المليحة الحيية، التي كانت سر متعتي وهيامي. حبي المبكر العفيف.
علاقتي به قديمة. صحيح لم أعرف كيف بدأت ولا كيف تطورت ولا كيف تورطتُ. ما أعرفه، كما استنتجت لاحقا، حين كبرت وصرت رجلا مستقلا بشخصي وذاتي، أنها كانت “موضوعة مفبركة”، مصنوعة على المقاس، مفروضة علي كأنها “قدر مقدور”. ما كنت لأتخذ قرارا بشأنها. بالإنهاء، بالاختباء، بالانزواء بالابتعاد عن هذا الملتصق بي دوما، كأنما هو ظل ظليل لي؛ في الفصل أثناء الدرس والتحصيل، في الساحة خلال فترة اللعب واللهو. كنت أجد نفسي، في مطلع كل سنة جديدة، أساق سوقا إلى مقعد في مقدمة الصفوف، بمقربة مكتب الأستاذ. وأجلَس إلى جواره في كل الأحوال رغما عني. لم أفهم ذلك إلا حين بلغت من العمر سنا، ففهمت أن الأمر كان يدبر “في الليل”بين السيد المدير الخنوع الطماع، والأب ذي الصولة والباع.
لم يكن أب المهندس شخصا عاديا، ليس في قريتنا وحسب ولكن في ربوع الوطن ككل. فلقد كان عقيدا بالجيش. و”العقداء”، ما أكثرهم الذين صاروا في لمح البصر، بعد انقلاب دموي، في منطقة جغرافية ملتهبة،”زعماء دول” بين عشية وضحاها.. ولذا كان للأب صولة وهيبة، إذا حضر إلى المدرسة نهى وزجر، ووزع التلاميذ على الفصول كيف شاء وكيف أمر، واختار لابنه من الأصحاب والزملاء من صادف هواه في قلبه ووقر. وطبعا كنت الأكثر حظوة من بين كل الذين درس ملفهم ونظر، حين علم بنبوغي وتفوقي الكبيرين على ابنه وسائر الأقران والبشر.
استحضرت ذلك كله فجأة وبرمته بعد أن صدمتني جلسته المثيرة إلى جوار الوزير فقلت متحسرا:
يا لوطن البلداء ! كيف وصل ؟ ما السر؟
لذلك قمت على عجل استطلع الخبر من كوكب “الحاج غوغل” أسترشده فيما جهلت عله يمدني بما رغبت. دخلت منظومة “الأشخاص المهمين” فنقرت على النِّت اسمه ولقبه. فإذا بسيل من الصور الرائعة، لشخصه”المحترم” في كل المقاسات، وبالألوان الزاهيات تقفز إلى العين فتجعلك أسير الجمال. كان أنيقا أناقة الفنانين الكبار، وسيما وسامة الإعلاميين في قنوات الأخبار. كان يبدو كما لو أنه نجم من نجوم هوليود البارزين، أو مطرب من مطربي هذا الزمن النتن الذي تتهافت فيه تلكم النساء، الخفيفات الحجا،المتهافتات الكاسيات العاريات،اللائي يتساقطن عند أقدام هؤلاء التافهين، كـأنهن أوراق الشجر الذابلة، في فصل الخريف وأيام الشتاء الباردة.
وتأكدت كم هي الدنيا فاسدة و”بنت حرام” و”زانية”، إذا أقبلت عليك رفعت من مقامك عاليا، وجعلت من شخصك نجما لامعا، وقمرا منيرا في لمح البصر. فأمرت أعوانها بــ”الحطب” لك وإيقاد نار المدفئة لبعث الحرارة في روحك وسائر بدنك ظاهرا وباطنا. وإن خذلتك، تركتك مأزوما محروما تندب حظك وتفرس أطراف أناملك حسرة وكمدا.

لكن لنكن دقيقين في القول والنظر. فبنت الحرام الفاسقة، الزانية الفاسدة ليست هي كل الدنيا بمن فيها وما عليها، فلا يجوز إطلاق الأحكام بهكذا إسراف. وإنما الفاسد فيها “السياسة” لما تصبح مستنقعا وشراكا يتصيد ضحاياه كما يتصيد بيت العنكبوت الحشرات الواهية.
بهذه القناعة خرجت من دوامة التفكير السلبي وأرحت نفسي من الضنك الذي أحدثته صدمة المفاجأة. وما إن هدأ الروع، وسكنت النفس حتى أحسست بصفاء ذهني عجيب. ثم زالت الغشاوة السميكة من على بصيرتي، فصرفت نفسي عن مناكفته فيما بلغه بما بلغه بطرقه الملتوية، وجعلت أبحث عن طريقة مثلى لتجديد الصلة به عبر التواصل الاجتماعي. فقمت إلى صفحته الخاصة أبعث له برسالة نصية قصيرة أحدد له موقعي في خريطة الوطن. وجلست أنتظر إن كان سيجيب أم أنه سيتنكر للتاريخ ولـ”الملح” وعِشرة العمر الطويلة. والواقع أني كنت باردا من جهة الرد والاستجابة بعد أن شاهدت المستوى الذي بلغه في الترقي على سلم السلطة والجاه. غير أن حدسي خاب هذه المرة. فالمفاجأة كانت كبيرة إذ وصلتني منه رسالة قصيرة تقول بالحرف “هذا رقم هاتفي اتصل فورا”.
على الهاتف جاءني صوته قويا مليئا بالحياة، لم يترك لي فرصة التحدث إلا نادرا. فكل ما فهمته من سيل تدفق كلامه أنه سيحجز لي تذكرة على درجة ممتازة نهاية الأسبوع. وسيأتي بنفسه لاصطحابي من المطار قصد التعرف على الأسرة الصغيرة وقضاء وقت ممتع رفقة الأحباب والأصحاب الجدد، من علية القوم طبعا.
لم أجده في المطار كما وعد، ووجدت شخصا يحمل لوحا مكتوبا عليه اسمي. دنوت منه فحياني وقال بأن السيد مدير الديوان يحضر اجتماعا طارئا وأنه سيلتقي بي فور انتهائه.
ـــــــــ “مدير ديوان وزير إذن” أسررتها على مضض.
مرة أخرى أحسست بالضيق يخنقني وكأني أصَّعد في السماء.. ولم يُجْد نفعا ذلك الهواء المتدفق من نافذة سيارة (4×4) الفارهة. شعور بالغضب العارم داهمني فشرعت، في قرارة نفسي، أصب جام غضبي على السياسة والوصولية، وعلى كل متزلف انتهازي في هذا الوجود ..
مرة أخرى سقطت في فخ المقارنات الموجعة، وأدركت كم نحن سريعي العطب في التصورات والقرارات. وأسرى لهوى النفس والانفعالات. لكن ذلك لم يكن ليزيد أو ينقص من الوضع قيد أنملة.
في مكتب السيد مدير الديوان جلست أنتظر “سعادته” في حرج من أمري. وقد طال بي الانتظار فجرعت من كؤوس القهوة من الترموس الموضوع على الصينية بفناجينها الجميلة مثنى وثلاث ورباع. كنت أتأرجح بين الرغبة في الخروج بأقصى سرعة، والذهاب إلى وجهة غير معلومة، هربا بنفسي من نفسي، وبين البقاء واللقاء بهذا “الكائن المتسلق” والمثير للاستغراب والجدل. وبين الإقدام والإحجام فتح الباب على مصراعيه فخرجوا سوية. كانوا قلة: ثلاثة موظفين بمن فيهم “صاحبنا الأريب” وموظفتان شابتان جميلتان كانتا بالغتي التأنق في المظهر والكلام. خرجوا مع الوزير وهم يتابعون حديثهم في مخطط التوسعة إياها، حتى إذا ما اقتربوا مني نظر الوزير باتجاهي فحياني بابتسامة خفيفة، وأسرع “الصديق إلى تقديمي للسيد الوزير:
ـــــــــ معالي الوزير، صديق الطفولة الذي حدثتك عنه.
ـــــــــ آه. نعم. تذكرت.
ثم نظر إلي مستفسرا:
ـــــــــ كيف هي أحوالكم في أقاليمنا الصحراوية؟
إذن هو يعرف عني كل شيئ..
ــــــــ الحمد لله.
ــــــــ استعد ستكون ممثلنا في المهام الكبرى في القابل من الأيام. صديقك يحبك كثيرا، لقد حدثني عنك..
لم أفهم ما كان يقصده. فاجأني كلامه. نظرت إلى “الصديق” مستفسرا:
ـــــــ سأتركك مع مديرنا يشرح لك المخطط. بالتوفيق.
ثم غادر رفقة الموظفتين الحسناوين.
حين اختلينا بنفسينا عانقني الصديق طويلا بين ذراعين قويتين ند منهما حب جارف. وفي الطريق، في سيارته الفارهة كان يشرح لي بعض ما خفي. ولما سار على أديم شوارع لا زالت لم تعبد بعد في مدينة هي قيد البناء والتشييد بأبراجها العالية المناطحة للسحاب، وسط ضجيج عال لأوراش ضخمة، وبآليات كبيرة وحديثة. كان يقول بزهو وافتخار:
ـــــــــ هذه هي معلمتي التي أنجزها لحسابي.
قلت أتعمد الإساءة:
ــــــــــ المنصب في الوزارة فهمناه. السياسة وما وسخ منها. لكن الثروة. من أين لك هذا!؟
أجاب ضاحكا دون أن يعير لتجريحي أي اهتمام:
ـــــــ لا تنسى ثروة الوالد رحمة الله عليه. استثمرت جزء منها في السياسة وعالم المال. ثم بيني وبينك الذين قالوا: “وراء كل ثروة عظيمة جريمة” لم يخطئوا.
نظرت إليه أستفسره.
ـــــــــ لكي تصل بثروتك إلى حدودها القصوى في الربح لا بد لك من مخالفة القوانين والمساطير بعض الشيء لكي “تأكل وتُؤَكل”. في عالم المال الساحة مليئة بالحيتان الكبرى. وأما السمك الصغير فينتهي به الأمر في غالب الأمر في أجواف القروش والحيتان.
ـــــــــ حدثني بمنطق الحساب ودع عنك لغة الحيتان والغربان.
ضحك مرة أخرى وهو يترجل داخل عمارة بأبراج عالية لا زالت قيد البناء والتشييد يسحبني معه في جولة:
ـــــــــ تصور أيها المهندس الفذ كم يلزم هذه الأبراج العالية من أطنان الخرسانة المسلحة والقضبان الحديدية في كل متر مربع؟ لك أن تتصور قيمة الأرباح التي أجنيها حين أغير قليلا في القيم والمقاسات، كأن أستعمل القضيب الحديدي سعة 14 ملمتر مكان 16ملم . و”أقتصد” في كل طن من الإسمنت 100كلغ. وبين سارية وسارية أستغني عن واحدة.
الآن فهمت اللعبة. “وغد وابن وغد” أسررتها في نفسي مرة أخرى.. “لكنه يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف”. أضفت معترفا.
قلت له: وهل تسلم الجرة في كل مرة؟
قال: إذا كانت أمك في مطبخ العرس فلن تنام على الطوى.
وسألته: أي مهمة يقصد وزيرك تكليفي بها هناك في الأقاليم الجنوبية؟
أجاب وهو يتفرسني بعينين فاحصتين كأنما يرغب في سبر أغواري:
ــــــــــ عملا بمبدأ “donnant donnant” المال مقابل جلب الأنصار.. بصريح العبارة يريد منك أن تصبح مناضلا مخلصا معنا في الحزب مقابل حصولك على صفقات كبيرة في مشاريع هامة.
قلت في نفسي “إذا كان البلداء قد بلغوا شأوا عظيما فالأحرى أن يتصدرهم النبغاء”.
بهذه القناعة عدت إلى الديار لتنفيذ المهام..
***********
بعد أربع سنوات كاملة من الكد والكدح، والجس والدس، صرت كاتبا محليا بحزب الوزير، برتبة ” المحتكر الأعلى” للمشاريع الكبرى بالولاية كلها. وحين كان “الصديق الأريب” يتجول معي في زيارة مجاملة نتفقد سوية مشروع الربط بين الضفتين على التصاميم، لفت نظره وجود ثلاث روابط ذهابا وإيابا على المخطط، في حين كانت الأشغال قائمة على قدم وساق في رابطين فحسب. وحين استفسرني عن الثالث قلت:
ـــــــــ اختفى بين “سارية وسارية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى