إنقاذ البحر من الغرق

أسماء الغول

غاب البحر كرمز وطني من الذاكرة الشعبية والخطاب السياسي، خاصة عند الحديث عن النكبة الفلسطينية، والعودة إلى القرى التي هاجر منها اللاجئون الفلسطينيون عام 1948 قسريا عقب هجوم الجماعات الصهيونية المسلحة.
وبعد أن كانت شواطئ البحر المتوسط في كل المدن الشهيرة كبيروت والإسكندرية وغزة وحيفا جزءاً من الحياة اليومية، وملهمة للأدب والفن والحركات الاجتماعية بما تتركه الحياة بجانب البحر من تأثير على الإنسان من حرية وشجاعة ومغامرة وانفتاح وتلاقي مع الثقافات الأخرى، نجد أن كل هذا تراجع فجأة مع النكبة الفلسطينية، وكأن البحر غرق واختفى ولم يعد موجوداً في الذاكرة الفلسطينية.
وكان الكاتب سليم تماري في كتابه “الجبل ضد البحر” قد أكد على هذا الغياب للبحر بسبب ما وصفه بـ”موقف التعالي والاحتقار المتجسد عند أهل الجبل، وفي مدن الهجرة. في التجربة الفلسطينية نجد تجلي هذا المفهوم الأخير في مدن اللجوء، ووصل ذروته في هوس الحظر ضد السباحة والتسكع على الشاطئ في أوائل التسعينات”.

ومحاولة لإنقاذ البحر من هذا التهميش المتعمد ، حمل بينالي “قلنديا الدولي” للفنون المعاصرة، الذي أقيم مؤخرا في نسخته الثالثة، شعار “هذا البحر لي”، وبتنظيم 16 مؤسسة ثقافية ومشاركة حوالي 200 فنان محلي وعالمي. ورفعت الفعاليات البحر على أكتافها طوال خمسة عشرين يوماً بالتزامن بين حيفا وغزة وبيروت وعمان ولندن والقدس ورام الله وبيت لحم.
ويقول منظمو المعرض في بيانهم الصحافي الافتتاحي “في محاولة لاقتراح وجهة نظر مختلفة ولنفض الغبار عن طبقات من المظاهر المتكررة للنكبة وتصوير العودة. قلنديا الدولي يتبنى شعار “هذا البحر لي” كعنوان لفعاليات 2016، فالبحر من غير قصد تم حذفه من روايتنا وجداول أعمال سياسيينا، وبعد ذلك تم تحويله إلى عنصر آخر من الحصار”.

ويرى المنظمون أن تصوير النكبة والتهجير القسري لحوالي 750،000 فلسطيني عام 1948 من منازلهم وتدمير مئات القرى من قبل القوات الصهيونية حيث أسسوا دولة إسرائيل، انخفض اليوم إلى شعار جامد وفارغ من أي معنى أو اتصال بالمشروع الوطني، ويستخدم فقط من قبل السياسيين للاستهلاك العام. فتتحول العودة في الثقافة البصرية إلى رموز ضحلة ذات بعد واحد؛ كالمفتاح، وبطاقة اللاجئين، لتعرض بشكل روتيني في المناسبات الوطنية والاحتفالات الخاصة بالنكبة في 15 مايو من كل عام، ويتم بعد ذلك إزالتها بسرعة في اليوم التالي.
وانطلاقاً من هذه الرسالة المخالفة للتقليدي، وبحثاً عن البحر كجزء من الذاكرة الجمعية الوطنية، جاءت أعمال 12 فناناً وفنانة من قطاع غزة لتصوير الهجرة والمهاجرين والنكبة برموز غير اعتيادية إما عبر البحر أو البحث عن رموز جديدة للتذكير بالهجرة، ووضعها في قالب فني دلالي بعيدا عن التكرار الرمزي لكلشيهات بصرية أليفة وقديمة وغير موحية، بل عبر تمثلات الفن المعاصر البصرية؛ من تصوير ورسم تجريدي، وانستليشن “الإنشاء التركيبي”.
البحر رقيق كما النايلون
وكان العمل الأول للفنان ماجد شلا وهو عبارة عن انستليشن مكون من عدد من القوارب الورقية مختلفة الأحجام والألوان ملصقة على خلفية من خامة النايلون الرقيق الأزرق، على مساحة 270سم * 200 سم بالإضافة إلى أرضية 60سم مغطاة برمل البحر والعديد من القوارب الورقية أيضا .
يقول الفنان عن عمله “هل يستطيع المرء أن يبحر على قارب من ورق؟، وهل يمكن لحلم عودة إلى أرض الوطن عبر هذا القارب الورقي الرقيق الذي ما إن يبتل بالماء لا يصلح استخدامه حتى في اللعب؟! “.
ويضيف “إنه حلم والحلم مشروع ومن حق الجميع أن يحلم، ونحن نحلم بالعودة حتى ولو كانت على قارب من ورق!”.

“البحر بيضحك ليه؟”
أما العمل الثاني للفنان شريف سرحان فهو أيضاً عمل فني بصري تركيبي “انستليشن” ويتمثل بدمية لطفل يقف أمام شاطئ البحر، وعمل آخر لقارب بلاستيك في البحر ممتلئ بسترات النجاة دون رُكاب، وتم تقديم العملين كصورتين فوتوغرافيتين، فلا يمكن نقل البحر إلى المعرض، مع أن الفنانين حاولوا ذلك بالرؤى المتعددة التي قدموها.

ويقول الفنان سرحان عن عمله الفني أن قصة طريفة حصلت معه ألهمته إياه، راوياً ” كنت أجلس مع صديقي المنقذ البحري أبوعاهد في برج الإنقاذ جنوب قطاع غزة، وكانت عيونه كالصقر ترصد المصطافين، وعلى غير عادته كان يبدو متوتراً، لا يكف عن استخدام صفارته وحنجرته والتشويح بيديه، وعندما سألته قال لي أن البحر اليوم “زعلان”، ويرغب في ابتلاع أحدهم، ثم سألني: هل ترى من يسبح هناك؟، نظرت حيث أشار، وبالفعل كان شابان يسبحان علي مسافة قريبة من الشاطئ، تقريبا في منتصف المسافة بين برجي الإنقاذ، وتابع صديقي: سيغرقان بعد قليل، وبدأ يشرح لي طبيعة المنطقة البحرية التي يسبحان فيها، ولأكثر من عشرة دقائق لم يغب بصري عن الشابين..لكن لم يحصل شىء ونسيت أمر الشابين.

بعد فترة لاحظت تجمع الناس مقابل تلك المنطقة، فقفز صديقي مسرعا بما تسمح به سنواته الأربعين، وأنقذ أحدهما، وفي نفس اللحظة تم إنقاذ الشاب الثاني من قبل المنقذ التابع للبرج الآخر، وعاد صديقي يلهث وشبه ابتسامة تلوح على شفتيه قائلاً: ألم أخبرك ؟ عدت وزرت صديقي أبو عاهد بعدها بأيام، وكان مسترخيا يرتشف كوبا من الشاي ويدخن سيجارة، فسألته مداعباً: من سيغرق اليوم؟، فأجاب بابتسامة واسعة: لا أحد.، انظر إليه، إنه فرحان اليوم!”
ويتابع الفنان سرحان “هذا هو البحر كما لم نعرفه نحن أو أي شخص عادي، فالبحر يفرح ويزعل، ويبدو أنه كان زعلان حين ابتلع المئات من الأصدقاء وأبناء بلدي، وآلاف من المهاجرين حين بحثوا عن الخلاص بالسفر إلى أوروبا”.
One Way
وقد عُرضت هذه التركيبات الفنية في مقرّي جاليري التقاء وجاليري شبابيك بمدينة غزة، وكما هو عمل الفنان سرحان، لم تعتبر أغلب هذه التركيبات أن هجرة 1948 الوحيدة في قدر اللاجئ الفلسطيني بل أيضاً هناك ثيمة الهجرة الحديثة التي تلاحق الفلسطيني عبر البحر وفي قوارب الموت إلى النصف الآخر من العالم.
وهذا ما عادله موضوعياً بريشته الفنان رائد عيسى حين قدم لوحة تجريدية متميزة، بعنوان ” one way” لشاب شيخ يقضى عمره على قارعة الطريق يحمل آلته الموسيقية وحقيبته، وينتظر مصيره.

ويشرح الفنان عيسى عمله “بين الحب والمنفى والأمل في العودة والأمل في الخلاص من واقع مرير إلى واقع أكثر مرارة، أقدم فكرة عملي الفني المستوحاة من قصص الشباب المهاجرين والذين يحاولون الهجرة من غزة عبر هذا البحر والذين يقطعون آلاف الأميال بحثا عن حياة أفضل وأملا بحياه كريمة فيسافرون برحله بلا عودة (ون وي )، أملاً في الخلاص من واقع مرير، وفي حياة أفضل، فيواجهون ويصارعون الأمواج عبر قوارب الموت المطاطية؛ منهم من فارق الحياة، ومنهم من نجا بأعجوبة بعد صراع مرير مع الأمواج، ومنهم من فقد الأهل والأحباب، وأصبحت أحلامهم في مهب الريح وكابوس يطاردهم مدى الحياة”.
لازمة اللاجئ
أما العمل الرابع فهو ذهب إلى سياق مختلف تماماً عن البحر والهجرة، وبحث في ذات اللاجئ، وشخصه وذاكرته وما قد تكون لازمته، ليجد الفنان باسل المقوسي ضالته في عمل تركيبي بعنوان “حقيبة أبي”، وهي عبارة عن حقيبة اللاجئ القماشية التي كان يجترحها من واقعه الفقير ليذهب بها إلى المدرسة.
ويقول المقوسي عن عمله “العمل يبدو للوهلة الأولى بسيطاً جداً بتكوينه وهيئته، كونه يتكوّن من حقائب مدرسية قديمة ومهملة معلّقة على جدران المعرض ومصنوعة من أكياس طحين الأونروا، لكن دلالته عميقة في سيرة اللاجئ الفلسطيني فهي تدلل على المعاناة الشديدة التي تتكبدّها العائلات الفلسطينية لمساعدة أبنائها على تحصيل العلم”.
ويضيف المقوسي :”رغم التشريد والضياع، أمسك الفلسطيني بتلابيب مستقبله واضعاً الأولوية في حياته لتعليم أبنائه، فإن كان لفلسطين عودة، فستكون على يد أبنائها المتعلمين”.
في مسار السمك
وكان أحد الأعمال البصرية التركيبية التي عُرضت كما هي وليس فوتوغرافياً ما استوقف العديد من الزوار، عمل للفنانة ديانا الحصري يصور سمكة سوداء أحشائها عبارة عن أطفال ملفوفين بالأبيض، والملهم الرئيسي لهذا الانستليشن هو مشروع فني بعنوان “مسار السمك” للفنان علاء البابا.
وتقول الفنانة عن عملها “تتمحور فكرة العمل على إكمال طريق مسار السمك للفنان علاء البابا وهو لاجئ فلسطيني من مخيم الأمعري بسوريا، حاول الوصول إلى غزة ليكمل مسار السمك عبر المخيمات الفلسطينية، وحين لم يستطع أراد أن يكمل أحد ما طريقه، وأحببت أن أكون هذه الفنانة التي تكمل الفكرة من غزة، فهذا العمل يتحدث عن معاناة المخيمات الفلسطينية من اضطهاد وظلم الاحتلال وخاصة مخيم الشاطئ الذي يقع على البحر”.
بيجو 404
أما العمل التركيبي البسيط في مظهره لكنه في مدلوله يحمل ذكريات آلاف من اللاجئين، والحيوات التي مرت بتلك اللحظة؛ إنه يمثل سيارة بيجو 404 موديل عام 1950، ركبّها وأنشأها الفنان محمد أبو سل، لتحمل فوقها الأمتعة والحقائب.
يقول أبو سل عن عمله ” غالباً ما كان يتحدث الأهل عن فترة ما قبل الثمانينات حين كانوا يجتمعون ويخرجون في رحلات سياحية إلى البلاد والقرى الفلسطينية التي من المستحيل أن نصلها اليوم كـ طبريا، والجليل، واللطرون، واللد، ونهر الأردن، وغيرها من الأماكن التي وصفوها وعايشوها إذ كانوا يستخدمون في رحلاتهم سيارة بيجو 404 موديل 1950، ويحضّرون ما طاب من الطعام والشراب والأغطية وقبعات القش، وينطلقون، فيتوقفوا حيث يريدون، يزورون القرى الأصلية دون مانع او تصريح، ولكن مع لوعة وأمل في العودة”
ويضيف أبو سل “في كل مرة يفتحون فيها ألبوم ذكرياتهم في تلك الرحلات، أخال نفسي معهم ويبدو المشهد أكثر تفصيلاً في مخيلتي إلى أن قدمته اليوم عملاً فنياً”.
“اشرب من بحر غزة”
للرئيس الراحل ياسر عرفات عبارة شهيرة أصبحت دارجة في الكلام العامي بالشارع الفلسطيني وهي ” وإلي مش عاجبه يشرب من بحر غزة”، وهكذا يتجلى في العبارة رمزان للقضية الفلسطينية غير اعتياديين؛ انه أبو عمار بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، والآخر هو البحر.
ولمح الفنان محمد الحواجري هذه الرمزية التي من الممكن استغلالها في عمل فني، فقدم بالفعل عملاً مركباً عبارة عن صورة تلفزيونية ثابتة لعرفات وأمامها عشرات الأكواب الشفافة المليئة بمياه البحر.
يقول الحواجري عن عمله الفني ” اللي مش عاجبه يشرب من البحر..مقولة شعبية شهيرة يستخدمها الناس في المجتمع الفلسطيني بعد أن استخدمها الرئيس عرفات كرسالة لنتنياهو في أحد خطاباته السياسية كنوع من الإصرار والثبات على الموقف”
ويضيف الحواجري “الرئيس عرفات كان احد القادة الذين يتمتعون بشعبية كبيرة بسبب استخدامه تلك اللغة القريبة من جماهيره وأنصاره، فالبساطة في اللغة تحقق كل ما يراد قوله”.
وكان في المعرض أعمال فنية أخرى لدينا مطر ورقية اللولو وسهيل سالم ومي مراد وعبد الرؤوف العجوري، جميعها أثبتت أن البحر ليس أبداً نقيضاً للمخيم، بل غالباً ما كان جاره، ومتعته الوحيدة وذاكرة سعادته النابضة.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى