ماذا يفعل الشعر بكل هذا القبح في العالم

عمار المأمون

يتداخل في نصوص مجموعة “مذ لم أمت” للشاعر والكاتب الصحافي رامي العاشق، الواقعي والمتخيل، الجانب السياسي والآخر الشخصي، فهي تحمل صفات صاحبها الذاتية، طيشه وجديته، هي أشلاؤه المتناثرة بين سوريا والأردن وألمانيا، حيث جمعها في كتاب كمن يلملم بقايا منزل في حي “مخيم اليرموك” الذي تعرض للقصف، ما جمعه ليس متجانسا، كالأنقاض كل منها ينتمي إلى أحد. والعاشق من أولئك الكتّاب السوريين الذين عاشوا ثورتها وآلامها وعذاباتها، لتكون هذه النصوص شاهدة على الشتات والموت وموسومة بعذابات أصحابها.

دعوة إلى التأمل

يتكون الكتاب، الصادر عن بيت المواطن للنشر والتوزيع، من 17 نصاً منشورا مسبقا في عدد من الصحف والدوريات العربية بين عامي 2014 و2016. في مقدمة الكتاب يثير العاشق تساؤلا يدعو إلى التأمل إذ يقول إنه مؤمن “بحاجة الواقع إلى أن أكون كاتبا أكثر مما أكون شاعرا”، فالعاشق يرى أن هناك التزاما من نوع ما بأن يكون كاتبا، لا مجرد التزام شخصي، بل مرتبط “بالواقع” والتغيرات التي دفعته إلى مغادرة سوريا جعلته يكون كاتبا لا شاعرا، فهو يفصل بين الاثنين على أساس رأيه الشخصي “أؤمن أن كلّ ما هو انفعاليّ ليس شعرا وأنّ كلّ ما لا ينتمي إلى الموسيقى ليس شعرا، وأنّ كلّ هذا القبح المحيط بنا يؤذي الشعرَ”.

الرأي الشخصي الجمالي الذي يمارسه العاشق لا يمكن تعميمه، وخصوصا في ما يتعلق بالقبح وعلاقته بالشعر، وهذا مرتبط بطبيعة الكتاب نفسه الذي يدّعي العاشق أنه ليس إلا نصوصا منشورة مسبقا، دون موضوعة واحدة، ليُطرح هنا تساؤل آخر، لم نشرها بكتاب إذا؟ وخصوصا أن هدف “تلقيها” قد تم طالما أنها نشرت سابقا. النصوص المنشورة في “مذ لم أمت” ووجودها في الصحف مسبقا بتواريخ سابقة يثير التساؤلات حول علاقة الكتابة الأدبية بالصحافة بوصفها جزءا من الصناعة الثقافية، وبوصفها وسيطا للنشر لا يمكن إنكار تأثيره على طبيعة النصوص، فدخولها ضمن عالم التداول الصحافي والرقمي يجعلها مرتبطة بمرجعيات هذه الصناعة لا الأدب.

الكاتب هنا هو مولّد للنصوص والعمل الإبداعي يأتي لاحقا، وهذا ما يقوله العاشق نفسه في المقدمة فهو يسعى حسب تعبيره لأن يجمّل القبحَ ويضع الكثير من مساحيق التجميل ليعيد إنتاجه على هيئة يسمّونها (إبداعيّة)، هو فقط يكتب دون مرجعيّة، والنصوص هي حقيقة كما قال هو، أشلاء مجموعة في كيس ورقي، ظلمها صاحبها نفسه بجعلها في كتاب، ويرتبط هذا الموقف من النصوص بموقف العاشق نفسه من الكتابة، النابع من تجربة شخصية وحكم جسدي -جمالي خاص به لا يمكن تعميمه أو نقله، هي حساسيته الخاصة التي لا تقبل الجدل.
الألفة والتشابه

تتميز نصوص العاشق بفردانيتها، كل منها كيان منفصل، يتداخل فيها السياسي مع الوجداني، الخصوصي مع العمومي، لكن الميزة المشتركة بينها على صعيد الصنعة الأدبية هي الألفة، فنصوص العاشق مألوفة على صعيد البناء الشعري، لا غرابة أو بنية علامات مميزة، هي تطفو على السطح، كجثث تلعب بها الأمواج، تختلف أوضاعها باختلاف شدّة الريح، هي تساؤلات الضحية التي تكتشف ما حولها بعد أن رست على شواطئ غريبة أو ابتلعها البحر.

العاشق غاضب أحيانا ونزق أحيانا أخرى، رومانسي يتغنى بأنثاه، وأحيانا أخرى حبيس غرفته وأفلامه الإباحية، بناء النصوص التي تراوح بين النثر والشعر مرتبط بما هو واضح وجليّ، الألاعيب اللغوية تبدو ساذجة أحيانا، لتعيد تفسير المجازي بما هو واضح، كما لا توجد أسئلة مرتبطة بالكتابة نفسها، بل إعادة إنتاج للخطاب السياسي والإنساني المرتبط بالثورة واللجوء نفسهما من وجهة نظر شخصيّة لا تدّعي الموضوعيّة، وهذه الألفة نراها تعيد نصوص محمود درويش ومظفر النواب إلى الذهن، لنرى بعض التشابه الهائل سواء بالصورة أو بالأسلوب، بل إن العاشق يبني بعض الفقرات على ما هو بالأساس شعري، لتبقى أطياف النص السابق حاضرة، يسعى العاشق للتحرر منها بالرغم من اختلاف مقاربة العاشق عن تلك الموجودة في النص الأصلي، لكن لا يمكن إنكار الحمولة الدلاليّة، للبعض من التناصات الجزئيّة التي نراها في بعض النصوص.

هناك خطابية وغنائية تميزان مجموعة النصوص، ضمائر الأنا تنتشر بين الفقرات، الأنا التي تطلق الأحكام وتشطح في خيالها وترى العالم من منظورها، إلى جانب أحكام القيمة التي تنبع من التجربة الذاتيّة، هذه الأنا مصابة بالرومانسيّة العميقة التي ترى الكون قد فشل في الرقيّ لتخيلاتها اليوتوبيّة، فهي لا تتجاوز صيغ الموت والخراب، المنفى والهجرات، تتحرك بين هاتين الثنائيتين لتنادي بصوت الضحيّة، هي لا تتجاوز تجربتها بل حبيسة ذاتها، حبيسة ماكينة موت، تتخبط بين بكراتها، لا تقرر لثانية أن تتوقف، أن تأخذ خطوة إلى الخلف، لتعيد النظر في تكوينها.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى