القصة القصيرة تسترجع اعتبارها وبريد الجوائز ليس سلة مهملات

أحمد المديني

الجائزة الجديدة التي أطلقتها هيئة الملتقى، والجامعة الأميركية في الكويت، المخصصة للقصة القصيرة، والتي احتفلت في الخامس من هذا الشهر بدورتها الأولى، وبتتويج فائزها مازن معروف، عن مجموعته «نكات للمسلحين»، هي بمثابة ضيافة كريمة في رحاب هذا الفن الدقيق والبديع. وربما تأتي في هذا الوقت لتجدد الاعتبار إلى القصة كجنس أدبي يُمثَّل في الآداب الحديثة أقوى التعبيرات فناً، ولغة، واستشفافاً للإنسان في العصر الحديث، في أوضاعه ومشاعره، ومطامحه، وأوهامه أيضاً. وهو ما تأتّى له بأدوات ومقتضيات مخصوصة بجنسه، متفردة فيه، متوارثة منذ نشأته في القرن التاسع عشر، في مفترق انبثاق المدنية الحديثة بأشكالها ومعضلات الإنسان في مجالها المستجد، وما فتئت تتطور في أكثر من طريقة تعبير.
الاحتفاء بفن القصة القصيرة في أدبنا العربي الحديث، هو تجديد الصِّلة مع ما يعد لبنة أساساً في صرحه، أحد أعمدته الراسخة والعتيدة، على امتداد ما يقارب القرن، منذ ظهوره البكر، وإلى زمننا هذا. يعلم الدارسون والكتاب والقراء المحترفون مدى غنى هذا التعبير، شكلاً ومحتوى، كفن مستقل تتجسد فيه مقومات الجدة وعناصرها التي طبعت هذا الأدب وميزته. وفوق هذا مكنته من هيئة فريدة تعددت وجوهها بتعدد المواهب والبيئات الأدبية العربية، وتفاعل فيها فن القول مع رغبة القبض على اللحظات الهاربة في معترك اليومي، وصراع المعيش، لإنتاج ما يمكن أن نسميه بلاغة السرد المديني وخُططه، متناغمة مع إيقاع العصر.
يعلم الكتّاب الراسخون، وأهل الاختصاص، أن القصة القصيرة ليست، وما كانت أبداً لغةً منمقةً، ولا كلاماً على العواهن مرسلاً، برفد أية حكاية، وبأي معنى، أو عظة، حسبها البداية والحبكة والوسط والنهاية، هي سرعان ما عبرت هذه المحطة التأسيسية لتندرج في المسالك الوعرة، بين الشعاب والظلال والأزقة الخلفية، حيث المشاعر دفينة، والوقائع حادثة، والحقائق متوارية، والحياة عابرة كبرق خُلّب. اللغة القوّالة تصير هنا هامسةً، والصور اعتدناها ثابتة تغدو مائسةً، ومشاهد اليومي تظنك تلمسها وهي بين ذهاب وإياب تمسي أخيلةً راقصة. والمعنى لمحةٌ تكفي، ونظرة واحدة فتعفي، والإشارة إلى اللبيب تُشفي.
بين آداب الشعوب، تنوعت فيها الأشكال والنماذج، وتصاعد فيها وبها البناء تلو المباني، مثلما تناسلت الخطابات، تجاذبت الرؤى، واستدقت المعاني. ليس لها جمع، لأنها مستقلة بمفرد فريد، وصوغ في كل مرة جديد، شأنها في هذا شأن القصيد، مُقرضه واحد، وصداه يمضي حتى الأفق البعيد. لهذا، ولأكثر من سبب سواه، هي فن النُدرة، وقوامها النظرة النفاذة، والحاسة السادسة، بعد تشغيل الحواس الخمس الأُخَر.
ترصد، ترسم، تعطي أُكلها في لمح البصر. لهذا، ولأكثر من سبب غيره، هي فن الكتاب الكبار، تحتاج، بعد الموهبة، إلى المهارة والخبرة بالإنسان وأشياء الحياة الغُفل وقوة الاستبصار. لا عجب لا ينبغ فيها إلا قليل، ويسقط في طريقها المتهافت، ضعيف المخيلة، وهم كثيرٌ، سيمضي إلى الرواية، مثلاً، أضحت بحراً من أي كلام، ومحفلاً كالهري، بلا باب ولا بواب، بينما القصيرة تهوى الخليل، وسيدة القول الجليل.
إن الاحتفاء بجائزة عربية جديدة تخصص للقصة القصيرة لينعش الأمل حقاً بوعد انبعاث هذا الجنس ـ النوع الأدبي في أدبنا المعاصر، بخاصة بعد ما يشيع عن بوار هذه البضاعة ونعي النقد والسوق لها على السواء.
وكل جائزة هي تحفيز معنوي كبير موجهة خصوصاً لأصحاب المواهب المعطاء والواعدة في آن، حقاً، لا لكل قلم مهدار. وهي تكتسب قيمتها من المعايير التي تقرز بها النصوص وتخضع خلالها لقراءة فاحصة تقر الأجود من الجيد، وتستبعد ما لا يستقيم لغةً ونحواً وعبارة وسرداً وتركيباً وتمثلاً للمعنى بتناسب الدال والمدلول. تتباين النظرات، يمكن للنظرات أن تختلف وللأذواق أن تتفاوت بين القراء المحكمين، بين المتلقين المحترفين، ولا شك، لكنّ هناك الجامع المشترك، سكة لا يزيغ عنها الدارس والقارئ المحترف، جاء في صيغة نص قصصي بنسق كلاسيكي محكم، أو نص منزاح بصيغة التجديد ومزاعم وتحقق التجاوز. وإما ثالثٌ مخلص لتراث القص القصير، ومستشرف، متمثل للنسقين، بجمال وقدرة حبك وسبك ورؤية عمق. وفي ما يخصّ هذه الجائزة تحديداً، لم أجد، كرئيس للجنة تحكيمها، بمعيّة زملاء دارسين ومحنكين في القراءة ومعرفة الأدب الحديث، أفضل من الاحتكام إلى معايير بدئية لا غنى عنها، أربعة: الفكرة بتناولها؛ سلامة اللغة وسلاستها وجماليات التعبير؛ طبيعة الرؤية الإجمالية للقصة، ورابعاً، درجة التخييل والتأثير الوجداني والموضوعاتي للنص السردي. وبطبيعة الحال، فإن العمل بهذه الأدوات ينبغي أن يتم بتفاوت، وتتأكد قيمته بنسبة غلبة عنصر على آخر وتميزه، إلا السلامة اللغوية والنحوية، فهي غير قابلة لأي تفاوت أو تنسيب. إن ثمة أخطاء لا يجوز للكاتب أن يقع فيها، أخطاء تزري بالنص كيفما بلغ مستواه الفني، ومن المعيب حقاً أن تدخل بالنص وصاحبه بتاتاً إلى مضمار الأدبي، أو بوجودها يجازف بالترشح لأي جائزة أدبية وكتابته من هذا الدرك، من أسف أضحت ظاهرة، لا جزئية أو هفوات عابرة ليُتغاضى عنها، ناهيك عن ركاكة الأساليب وغثاثتها والافتقار إلى ما ينبغي أن يميز كل نص على حدة في حلته الأسلوبية والبلاغية والوافية. نحسب أن بريد الجوائز ليس سلة مهملات ليُرسَل إليه أي كلام كيفما اتفق. نحسب أن ليس كاتباً من لا يحسّن الأدوات الأولية للغة كتابته، أحرى أن يجيدها ويمهر، هيهات!

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى