أحمد مصطفى علي يقرأ أحلام نجيب محفوظ

محمد الحمامصي
يبدأ الناقد أحمد مصطفى علي كتابه “محفوظ وأحلامه التي لا تنتهي.. مقاربة نقدية لأحلام فترة النقاهة” الصادر أخيرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذي يتناول فيه العمل الأخير للمبدع الكبير نجيب محفوظ “أحلام فترة النقاهة” بطرح العديد من التساؤلات الكاشفة والمهمة حول عمل الروائي الكبير: ما تصنيف الأحلام؟ وهل يمكن اعتبارها جنسا جديدا من الأدب يطرح قضاياه في شكل غير محدود وهو الحلم؟، ومن ثم ماذا يريد محفوظ أن يخبرنا بكلمة أحلام؟ أو ليس هو ذاته من سخر من قبل من الواقع إن جاز لنا التعبير، وكان في ذلك قولته الشهيرة “أي واقع.. هو فيه واقع؟”، وهل هي حلم الواقع أم الحلم اللازم للواقع، أم الواقع الحلم أم الحلم الذي يريده للواقع؟

ثم ماذا يقصد بفترة النقاهة تلك التي يريد أن يخبرنا عنها محفوظ؟ هل هي نقاهة مرضه أم نقاهة مرض الوطن أم نقاهة يحتاجها أهل الوطن للرجوع لقيمهم الجميلة التي قتلتها أيدي الاستبداد والفساد والتهميش؟ بل ولماذا ترك العنوان هكذا غير محدود؟ فهل كان يعلم أنه سيطل علينا من وراء المجهول ليحدثنا ونحن في عام 2016 ويخبرنا بما نحن ما زلنا في حاجة إليه بعد سنوات من ضجيج الثورة والثورة المضادة، بل وما زلنا نحلم به ولا نجده أو ما زلنا واقفين علي عتبته من أحلام لم نشرع في نقلها لشريعة الواقع، بل ولم نسر في طريقها عبر السر الدائم الذي أخبرنا عنه الشيخ عبد ربه التائه في رائعة محفوظ الأخري “أصداء السيرة الذاتية” أنه سر الحياة وسرها الإرادة.

وقال أحمد مصطفى علي “لكي نصل لتحقيق السر لا يوجد مفر من الإبحار الجيد في الأحلام المحفوظية لنا وفينا، إذ الحلم الجيد والمحكم والواعي هو السبيل للإرادة الناجزة والفاعلة والقادرة على المستحيل، لذا لا يوجد مفر من الرجوع للأحلام النبيلة، وفي عملنا هذا الكثير منها؛ إذ هو ليس عملاً أدبيًا بديعًا فحسب إنما أيضًا تجربة جديدة في التراث الإنساني بما لها من أسلوب ونهج تختلف عن أي اسلوب، بل وقراءة نقدية للواقع عبر ما يمكننا أن نقول فيه إنه تحقيق دقيق لرسالة الأدب للحياة، وليس الأدب للأدب كما يرى الآخرون. إذ وفي هذه الرسالة التي ينطلق منها الأديب المخلص لقضايا وطنه، يستتبع أمره التجديد والتشويق والجذب لقارئ العصر وأي عصر، ومن هنا خلق إبداع التجديد، ولهذه الطلاقة غير المحدودة لكلمة إبداع كان مفهوم الإبداع الذي لا يعرف النضوب أو التحديد”.

ورأى أن محفوظ أديب يحمل روح الفيلسوف لما وراء الأشياء، وفي ذات الوقت عقل الناقد الواعي الذي يزن الأمور بميزان الذهب، لذا كانت له البراعه الخاصة في استخدام عالم الرموز بالشكل الذي يثير الإعجاب والإمتنان معًا، فهو عاشق لتلك اللذة التي تتكشف للقارئ العميق بل وتستلزم على القارئ السطحي أن يلتزم العمق حينما يقترب منها، فعليه حينها أن يعرف أنه يدنو من بلاط قصر أحد أهم ملوك وسلاطين الأدب في العصر الحديث، وهو أمر يستوجب بطبيعة الحال التأمل والتفكير ليحصد في نهاية المطاف رحيقه الراقي الخالص، ويستطيع حينها أن ينظر للعالم ومكوناته جميعها بشكل أكثر عمقاً وتناغماً، أنه الأدب المحفوظي ذو السمت الخاص والمميز للغاية والذي كتب له وبه الخلود، وهو الأدب الثائر أيضاً والرافض للجمود.

ولفت أحمد مصطفى إن أحلام “محفوظ” هي الأحلام والواقع في غموض وفلسفة الراهب “محفوظ” الخالدة، وإن خرجنا عن مدلولاها الاجتماعي نجد الفلسفي يحاصرنا إذ نحن نعيش الحلم الذي ينتهي بالموت وقد ينتهي بالاستيقاظ من النوم، إنها ذات الجدلية الأزلية الشديدة التعقيد والحضور بين الحلم والواقع، وفي ذلك أحلام الجنين في بطن أمه، وأحلام الرضيع والطفل والتي عجز العلم الحديث حتي الآن من معرفة ماهيتها أو تفسيرها ومدخلاتها، فيا تري بماذا يحلم أيضاً هذا الرضيع وهو لم يعرف شيئاً بعد عن هذا الكون ومشكلاته؟، فهل يكون للأحلام ارتباط بالوجود ومن ثم علاقة بالعدم، بل وحتي الفناء وتطور واقع البشر كان رهين الأحلام التي قضت علي أصعب الأوبئة واخترعت أعظم وسائل النقل وأفضل طرق الحماية من الكوارث الطبيعية المهلكة، وفي ذلك ما كان من أحلام الطيران التي قفز بها عباس إبن فرناس إلا أن سطعت حقيقة باختراع الطائرة الحديثة، وهكذا كانت كل أحلام البشر أو الافراد ممكنة الحدوث بمزيد من العزم والإرادة”.

وأضاف “مع ذلك تبقي الأحلام الإنسانية هي الأصعب والأكثر ثراء، فالغرس الثقافي وإنمائه أمر بالغ التعقيد والصعوبة، والحلم فيه مشروع الأدباء لإيقاظ ضمير المجتمع والسلطة نحو مهامها المقدسة، وفي ذات الوقت إنشاء أجيال جديدة علي معان أكثر نقاء وجمال وبهاء لأجل إشعال الضوء المراد والذي يستحال بدون تهذيب النفس وترقيتها في محراب صوفي سامي ونبيل يجعلها تصبو نحو الوحدة والتسامح والإيثار ومن ثم كل الأعمال العظيمة والخالدة حينذالك ممكنة. وهكذا الأحلام غايتنا وغاية الإبداع تنفيذ الأحلام الهادفة لخير الحياة واستقامتها، وهي غاية البشر وغايتهم السعيدة بل وقد تستحال دونها، أنها أيضاً سبيل التغيير الواقف كالصخر أمام أي محاولة للنيل منه، لذا ستظل أحلام محفوظ الخالدة تطاردهم جميعاً، وتحمل رحيقها إلي التراث الإنساني الباقي والخالد عبر العصور”.

يتضمن الكتاب بالاضافة إلى مقدمة المؤلف، تقديم للكاتب الروائي يوسف القعيد، تحت عنوان “مصافحة أولى”، أعرب فيها عن أهمية الدراسة، ساردًا بعض ذكرياته الشخصية مع نجيب محفوظ وكتابته للأحلام، ومفصحًا أيضا عن بعض المعلومات المجهولة حول كتابات محفوظ الأولي والثانية للأحلام، وقال “ما أكثر الكتب التي صدرت عن نجيب محفوظ، سواء قبل نوبل أو بعدها، إما في حياته أو بعد رحيله عن الدنيا، ولكن هذا كتاب فريد في موضوعه، نادر في قضيته، لأن الأحلام لا تشكل الوجه الآخر للواقع، لكنها أمنيات الحياة اليومية التي لم نحققها، تتسلل عبر اللاوعي وتخرج على شكل أحلام أو ربما كوابيس، وحتي الكوابيس لها وجود في أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية، ويقدمها باعتبارها الوجه الآخر للأحلام”.

يقع الكتاب في فصلين، الأول بعنوان “نظرة شاملة لأحلام النقاهة” ويشتمل على توضيح الكاتب لتصنيف العمل، وظروف كتابته، بجانب استعراض عنوان العمل وما يحمله من دلالات، ثم الأسلوب المتبع في كتابة الأحلام، والألفاظ المستخدمة، وصولاً إلى مضمون نصوص الأحلام وتفسيرها أو ما تضمنته من موضوعات وقضايا.

بينما يأتي الثاني تحت عنوان “قراءة بين نصية للأحلام” ويستعرض خلاله الكاتب 146 حلمًا، يعمد خلالها إلى عرض وجهة نظره النقدية لكل حلم على حدة، بجانب عرض وجهات نظر نقاد آخرين في بعض الأحيان، ويقول في تبرير ذلك أن بعض النصوص الثرية تتطلب تعدد الرؤى، أو تحمل المؤلف على شوق معرفة قراءات مغايرة أو مختلفة، هذا بجانب ما قد يحمله ذلك لدى القارئ من دفعه للاجتهاد، وفي النهاية أن يظفر بذات اللذة والفائدة التي تحققها المعرفة وروحها الساحرة الكامنة في أدب نجيب محفوظ.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى