بين عالم السرد والحياة: قراءة نقدية لرواية الأردني جلال برجس «أفاعي النار»

 

رزان ابراهيم

ما أن يصل القارئ إلى الصفحات الأخيرة من هذه الرواية حتى يصبح في إمكانه الحكم على العنوان بأنه جزء حيوي مهم في بنيتها، فمشاهد النيران الحارقة التي تكتنف الرواية تدخل في إطار ما يطلق عليه جيرار جينيت «درجة التواتر» التي تبرز قيمتها من خلال تكرار وحدات سردية بعينها، بل إن القارئ يصبح بإمكانه على امتداد سطور الرواية أن يجمع صوراً متناثرة تمر هنا وهناك في بؤرة تفضي إلى ما يمكن للنار أن تثيره من دلالات وظيفية وفنية في الوقت نفسه. بطل الرواية «علي بن محمود القصاد» يُحرق بيته ثلاث مرات؛ في المرة الأولى ينجو ويفر إلى باريس، حيث يقضي خمس عشرة سنة، يكمل تعليمه أثناءها ويصبح أستاذاً جامعياً مرموقاً. وفي باريس وللمرة الثانية تشتعل النار في بيته فيتحول من بعدها إلى رجل مشوه بالكامل. وحين يعود إلى قريته يحرق بيته للمرة الثالثة ما يفضي إلى موته، بل وإحالته رماداً منثوراً في الهواء. بطبيعة الحال فإن وراء هذه النيران عقولاً خربة لا تؤمن إلا بالحرق والقتل. يحركها في البدء حكم على القصاد بأنه كافر بحجة ما يكتبه عن « العيب والحرام»، أما المنفذ فيفعل ذلك لأنه كان زوجاً لامرأة كانت قد أحبت « القصاد» وبقيت تهذي باسمه. وهي الفتاة المجبولة على حب الحكاية وكتابتها والتي قام إخوتها من قبل بحرق كتبها التي رأوا فيها عيباً وحراماً.
استكمالاً لمشاهد النار المتكررة في الرواية، فإن «خاطر» الروائي كان يرى في منامه « ألسنة النار تأكل جسده ولا تترك له بقايا سوى الرماد، وهو يصرخ مستغيثاً السماء أن ترسل أمطارها لتطفئ النيران، فتهرب تلك الأفاعي». يحصل هذا بعد أن تعرض بيته للحريق في اليوم نفسه الذي أنهى فيه روايته، وكان عاجزاً عن استردادها، إلى أن يبادر إلى الجلوس مع حكاءة التقاها بالصدفة تحت شجرة التوت وبدأ يسجل عنها حكايتها «حكاية العاشق علي بن محمود القصاد» التي تشبه حكايته ليختفي من بعدها كابوس «أفاعي النار» الذي كان يهاجمه.
قبل المضي قدماً في الرواية، أشير إلى عناوين فرعية نلاحظ أنها تأتي لتلخص أهم ما جرى من أحداث ووقائع في كل فصل على حدة. ونستطيع الحكم عليها بأنها كانت جماع النص وملخصه (مرابح الخاسر)، (ليلة ناقصة)، (ما حدث تحت شجرة التوت)، (صاحب الكرامات)، (ليلة ظهور الغول) وغيرها مما يؤكد تفاعلاً جدلياً بين العنوان ومتن الفصل. بعد العنوان نقع على عتبة مباشرة هي بمثابة قاعدة تأملية إرشادية تتعلق بالوجود والحياة، تنسب إلى أكثر من شخص في الرواية؛ ففي (مرابح الخاسر) نقرأ: «النار لا تأكل إلا ما تراه العين، لذلك تصاب بالجنون، حينما لا تجد سبيلاً إلى ما لا نداريه في دواخلنا «. وفي (ليلة ناقصة) تأتينا المفارقة بين خبر اكتمال الرواية وعنوان النقص الذي أحدثته النار في بيت خاطر. لنخلص من خلال ما تقدم إلى أن العناوين المستخدمة يمكن للقارئ التعامل معها باعتبارها بنية دلالية وإشهارية تحمل مستوى إعلامياً وفكرياً وجماليا في الوقت نفسه.
من حق القارئ أن يعقد مقارنة بين ما يجري في عالم السرد، وما يتعايش معه يومياً على أرض الواقع. وهنا تتراءى لي قرية ظالمة يكبر أبناؤها وفي قلبهم نقمة عليها. كما «سعدون» الذي عاقبته القرية، بينما كانت أمه طريحة الفراش تئن وجعاً لنقص في الدواء. وهي في مجملها يقطنها بشر عقولهم نائمة مستلبة، تتقبل الخرافات ويسهل إخضاعها بحجج دينية ملفقة. لتكون الشخوص في نهاية الأمر مستقاة من واقع خارجي، أو ما أصبح معروفاً بمناطق التوتر العربية في إطار صراع شرس بين أصحاب الفكرين التنويري والمنغلق.
جدير بالذكر أن الروائي – خلافاً لكثيرين يعمدون في كتاباتهم إلى وضع كل ما يتعلق بالإسلام في دائرة التحجر والعدوانية – بدا حريصاً على أن لا ينمط رجل الدين، لذلك نجده اختار شيخ المسجد كي يقول للناس: «حكموا عقولكم، هل تصدقون حكاية الغول هذه؟». وبالمثل يأتي «خضر المحمود منبهاً إلى أن «ديننا لا يعترف بالخرافات». كما نجد في الرواية ما يفيد بأن أمثال هذه العقول المنغلقة هم «نواة أولى لكل ما نراه هذه الأيام من حركات متطرفة تقتل الناس وتقطع رؤوسهم وتكفر من تشاء». ويصبح بإمكاننا القول إن للكاتب منطقاً لا ينفصل عن المسار الذي يختطه لشخوصه. وفي هذا المقام نستذكر (الضحية البريئة) وهو دور روائي فهمه فيليب هامون يسمح بالتحول من المشاركة العاطفية إلى مشاركة إيديولوجية. ومعها تصبح الضحية هي المجسدة للقيم الحقة، قبالة جلاد مذنب تغدو قيمه أبعد ما يمكن عن الحق، مما يلغي أي إمكانية للتعاطف معه. ومن هنا يأتي الحد الختامي الذي تنتهي به شخصية «علي القصاد» على النحو المأساوي الذي شرحناه خادماً لرؤية الروائي ومنطلقاته.
عن هذه العلاقة الممكنة بين عالم الفن والحياة يأتي الروائي ليكسر الحاجز بين عالم المتخيل والواقع، بل أراه نجح باقتدار في إشراك القارئ في الالتباس بعوالمه المتخيلة، من خلال عوالم غرائبية تدخل المتن. من هنا نجد أن البنية الروائية في «أفاعي النار» اعتمدت في جانب منها على نوع من الكتابة تعلو فوق الواقع وفوق قوانين الحياة العادية؛ ففي أكثر من موقع يضعنا الروائي أمام واقع ساحر يتعدى حدود العقل لنصبح مع حالة تفقد فيها الأشياء منطقها. يحصل هذا مع حاسوب لا ينقطع حضوره المتكرر عما ذكرناه من درجة تواتر نشهدها بعد كل جلسة مع الحكاءة. ونجده على نحو مباغت وبعد أن يغدو برأسه المشوهة شبيهاً بالقصاد ينتقل من مكان لآخر، ليعاتبه ويسأله عن أشياء ناقصة في الحكاية لم تقلها الحكاءة، سأقول كل شيء لم تقله في روايتك». «أنا أكثر جرأة منك، رغم أني أنا أنت وأنت أنا». وهو ما أدخل خاطر في حالة متكررة من الخوف والاستغراب، خصوصاً أنه حين يعود لا يجد الحاسوب في مكانه. ومن ثم تأتي زوجته «رحاب» فيدعي أمامها أنه يراجع الرواية بصوت مسموع.
الغرائبية ذاتها نراها مع الحكاءة التي تحمل سراً لم يفهمه، وكانت رائحتها تصفعه، مع إحساس بحنين وإحساس غامض يسحبه نحوها. والأهم من هذا أنها كانت فرصته في استرداد رواية كتبها لوجع قديم وانتصاراً للحياة. مع سؤال يلح عليه: «كيف انتقلت روايتي لتلك المرأة، بكل تفاصيلها، كأنها كانت هي القلم الذي كتبت به»… وكانت طيلة الوقت في مظهرها وصوتها تنبش شيئاً في ذاكرته «رحت أدقق ملامحها التي شعرت بأنها ليست غريبة عني، كأني أعرفها من ذي قبل.. بي صوت ينبئني، بأنني حقا التقيت تلك المرأة في مكان ما.. روحها ليست غريبة عني». هنا نجد الرواية قد مزجت باقتدار بين عالم الحقيقة وعالم الأحلام، أو بين عالم اليقظة وعالم المنام. والأغرب من هذا أنه رآها تجلس على واحد من الكراسي مع شاب بعمره يحمل هيئته وملامحه نفسها «هو أنا بعينه.. عندما تحققت أكثر وجدته نسخة أخرى مني والأكثر غرابة أنني وجدت البيت مألوفاً لي بكل مقتنياته وبالسكينة التي عادة نحسها في بيوتنا التي ولدنا فيها» بل ويراها تبتسم بوجهه «ابتسامة عذبة لا تجيء إلا من وجوه الأمهات حينما تزداد بهن غريزة الأمومة.
تزداد الأمور غرابة ليتكشف في النهاية خيط يربط (الحكاءة/ المرأة التي أحبها القصاد) والشاب الذي معها. «الحكاءة لها صوت أمي وملامحها التي أخذت تتضح. تيقنت وقتها من أن التي رأيتها تنشج هي أمي». هنا يصبح بإمكاننا القول: إن في الرواية غرائبية تصل إلى درجة يمكن وصفها بواقعية سحرية ليست بعيدة عن غرائبية في تراثنا السردي العربي الشفاهي والمكتوب، لولا أن الروائي عاد ليفسر ما رآه بأن ذلك كله كان مجرد حلم استفاق منه بعد نوم طويل تحت شجرة التوت، هارباً من كابوس أفاعي النار الذي داهمه بعد الحريق الذي شب في منزله، ليصبح بعدها قادراً على استرجاع الرواية مرة أخرى.
تتوزع أدوار السرد على شخصيات ثلاث؛ في البدء يروي ( خاطر) بضمير المتكلم ممسكاً بزمن خاص بالذات الأولى في النص. علماً أن صوته اختلط بصوت المؤلف على نحو لافت. ومن بعدها تأتي (الحكاءة/ بارعة) التي تروي بضمير الغائب أو بصوت الراوي العليم الذي يسمح لها بإعادة تركيب الرواية وإرسالها لمستمعيها ومنهم خاطر الذي يتلقاها ومن ثم يعيد بناءها. وهو ما يجد القارئ تفسيراً له من خلال ما تقوله لفريق المستمعين من حولها من أنها وجدت دفتراً للرجل يحكي فيه حكايته، إلا أن جزءاً من الكلام كان قد ضاع بسبب الحريق، وهو ما قامت بتعبئته من خلال خبرة في عالم القص مكنتها من أن تسرد ما في الدفتر على شكل حكاية متماسكة. هذا لا يمنع أن ( علي القصاد) لم تُحجب عنه فرصة حديث نفسي يصل القارئ وهو يقرأ من دفتر مذكراته الذي سجله فترة خمسة العشر عاماً التي قضاها في باريس، وهو ما يتم عبر لغة مثقلة بالحزن واليأس.
في حديثنا عن اللغة في العملية السردية يكون بإمكاننا القول إنها تحركت من الأمام إلى الوراء، أو من الحاضر للماضي لتقوم بتلخيص الأحداث والأوصاف والأقوال على لسان واحد من هؤلاء الثلاثة الذي يقوم بعمل وسيط يتكفل بالإخبار أو حتى بتقديم الشخصيات. علماً أن أياً منهم لم يكن مستقلاً عن الحكاية، بل وأدوا جميعهم دور السارد والشخصية معاً، ولم يكن بإمكانهم التخلي عن ذاتية السارد. كذلك يغدو من اللافت ونحن نتحدث عن حركة اللغة أن القارئ بإمكانه أن يرصد أكثر من صيغة دالة على المستقبل؛ أي تلك التي تتضمن أحداثاً لم تقع بعد. ولدينا في الرواية أكثر من مقطع حكائي يدخل في دائرة الاستباق، أو ما يصح تسميته تصويراً مستقبلياً لحدث سردي يأتي تفصيل القول فيه لاحقاً. ففي الصفحات الأولى نجد خاطر يقول: «بعد عامين من الكتابة.. لولا هول ما حدث في تلك الليلة». وفي موقع أخر يقول: «كأن شيئا بي كان يتنبأ بما سيحدث». وهو أمر يتصل بإثارة فعل التوقع لدى القارئ، بل وبإمكاننا احتسابها نقطة انتظار ترفع من وتيرة التشوق لديه، أو هي بمثابة تمهيد يشكل بذرة – وفقا لجيرار جينيت- غير دالة وتصبح ذات معنى في وقت لاحق وبطريقة إرجاعية.
لا يمكن الحديث عن لغة السرد بعيداً عن بعد جمالي زخرفي تزييني لم يخل من أبعاد تفسيرية رمزية مرتبطة بطبيعة الشخوص ونفسياتها؛ فما من شك أن النص يتضمن مساحة شعرية واسعة تجاوزت دوراً إخبارياً ناقلاً وحسب، وهو ما يترك أثره الملموس لدى قارئ ينجذب للغة مكتنزة مصحوبة بوهج لغوي لا يخلو من رومانسية حالمة تنحو باتجاه القول إن النيران التي قد تأكل الحجارة تبقى عاجزة عن أكل القلوب؛ وهـــــــو ما رأيناه مع رجل طاردته النار منذ أول فكرة له عن الحب، إلا أنه بقي وحتى اللحظة الأخيرة من حياته يحمل في ضلوعه قلباً مفعماً بالحب. يبقى أن جلال برجس يكتب بوعي من يؤمن «أن الكلمات طيور محلقة لها نفس طويل على اجتياز المسافات البعيدة». ولعلها من ذلك النوع الذي يخاطب الحالمين لذلك جاء إهداؤه «إليكم يا من كنتم تحلمون». ولكنها كما كنت قد وصفتها لا تبقى في هيئتها الحالمة، فهناك تماس واضح بين المادتين الحلمية والواقعية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى