شبرا … إسكندرية صغيرة في القاهرة

سيد محمود

يستعيد كتاب «شبرا… إسكندرية صغيرة في القاهرة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للمؤرخ محمد عفيفي، صورة لم تعد موجودة للحي الشعبي العريق في قلب القاهرة. ويرى الكاتب أن التطور الأعمق الذي غيّب الإرث الكوزموبوليتاني فيه طرأ بعد تغير التركيبة السكانية وخروج الأجانب من الحي، ففقدت شبرا طابعها المتوسطي القائم على احترام التنوع، وتفاقمت المشكلة عقب موجات الهجرة من الريف على مدى الـ 60 سنة الأخيرة.
وعفيفي، رئيس قسم التاريخ في جامعة القاهرة، قدم سابقاً مؤلفات أبرزها عن الأوقاف في العصر العثماني، وتاريخ الأقباط، وله كتاب بعنوان «التاريخ والموسيقى»، وتعاون مع المؤرخ الفرنسي البارز أندريه ريمون في مشاريع بحثية عدة، وشغل لنحو عام منصب الأمين العام للمجلس الأعلى المصري للثقافة. ويسعى في كتابه الأحدث، إلى بناء سردية تاريخية توازن بين ذاكرة شخصية تتعلق بميلاده ونشأته في حي شبرا، ومجموعة من الأرشيفات الشخصية والمراجع الموثقة.
ويختبر الكتاب منهجاً جديداً في الكتابة التاريخية في مصر، يعتمد على السرد الذاتي ومناهج التاريخ الشفوي. وبسبب حداثة هذا المنهج قد يستشعر القارئ شيئاً من عدم الانسجام، لكنه ينتهي مع شغف القراءة إلى امتلاك سبيكة تؤرخ لماض عريق للحي الذي فقد شخصيته القائمة على الانفتاح على الآخر والتعايش معه سواء كان هذا التعايش مؤسساً على فكرة المواطنة وموجهاً إلى أبناء الثقافة القبطية المحلية، أو عالمية الثقافة، قاصداً أبناء هويات أجنبية غربية غالباً، استقرت في الحي في النصف الأول من القرن العشرين.
يكتب عفيفي نصه تحت وطأة «النوستالجيا»، ويؤطر لحنينه الخاص، انطلاقاً من استراتيجيات المقاومة لزوال الماضي، فشبرا التي يسعى إلى تثبيت صورتها تمثل «الزمن الجميل الذي نلجأ إليه لنقاوم عبث الحاضر». واستناداً إلى ذاكرته ينحاز عفيفي إلى نموذج المغنية العالمية داليدا التي ولدت وعاشت قريباً من البيت الذي ولد فيه، فهي «بنت من شبرا» أصبحت ملكة جمال مصر في العام ١٩٥٤، وتختزل سيرتها المفهوم الحقيقي للمصرية في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهو المصرية كثقافة، فالمغنية الذائعة الصيت ليست سوى أيقونة للزمن الذي ولى واندثر.
وتتجلى في الكتاب لعبة المراوحة بين أكثر من ذاكرة، إذ يتابع المؤلف المتخصص في التاريخ الاجتماعي، سيرة نشوء الحي عقب عمليات التحديث التي ارتبطت بتجربة محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، راصداً النمو العمراني والتطور الإداري للحي الذي عرف تحولاً كبيراً بقيام صاحب التجربة ببناء قصرٍ له في قرية شبرا الخيمة، وبالتالي عمد إلى شق طريق شارع شبرا ليربط بين قصره والقاهرة، ومنذ ذلك الوقت بدأ العصر الملكي لشبرا التي أصبحت موطناً للقصور الريفية للأسرة العلوية.
وفي فتراتٍ لاحقة تمَّ التبرع بمعظم سرايات شبرا لتتحول إلى مدارس حكومية، أبرزها سراي طوسون التي تحولت منذ عام 1927 إلى مدرسة شبرا الثانوية للبنين، وهي المدرسة التي ما زالت تنافس المدرسة التوفيقية، أعرق مدارس الحي حتى الآن. ومع تحول شبرا إلى منتجع ملكي ونمو حركة السكن فيها، ظهر الحي للمرة الأولى على الخريطة الإدارية للقاهرة في دفتر تعداد السكان عام 1882، وبلغ عدد سكانه آنذاك 11091 نسمة.
ووفق عفيفي، عاش الحي فصلاً جديداً من التحولات مع مطلع القرن العشرين، في ظل نمو ضواحي شمال القاهرة، لاستيعاب الهجرة من الريف التي زادت في شكل ملحوظ بعد الحرب العالمية الأولى، مع تباطؤ نمو الإنتاج الزراعي. لكن التطور الثاني الذي أثر في النمو العمراني والإداري في شبرا هو مد خطوط الترام في القاهرة عام 1896، ومن ثم امتداد الترام إلى شبرا عام 1902 وروض الفرج عام 1903، إذ تحولت البساتين إلى أراضي بناء.
ويتشابه ذلك مع تحول لاحق، تمثل في تشغيل مترو الأنفاق في منتصف تسعينات القرن الماضي. ويسهُل تتبع تحولات أخرى عبَّرت عنها مدارس الحي التي يؤرخ لها الكتاب انطلاقاً من الصحافة المدرسية، ومرويات متخرجيها، ممن أصبحوا شخصيات عامة. كذلك يحمل الكتاب معلومات بالغة الأهمية عن صحف غير معروفة أصدرتها الجاليات الأجنبية أو بعض الطوائف الدينية. ويشدد عفيفي على أن الهجرات الريفية لم تحترم التنوع العرقي والديني واللغوي في شبرا، وبالتالي نشأت الأجيال الجديدة في السبعينات – عكس المهاجرين الأوائل وأبنائهم – على عدم معرفة التعددية، ومن ثم التمسك بالأحادية وعدم الانفتاح على الآخر.
وهكذا جرى «ترييف شبرا»، من ناحية القيم والعادات، وفي تلك الظروف بدأ الترويج للجماعات الدينية المتطرفة التي ساهم صعودها في تغييب أحد وجوه شارع شبرا الذي كان مثالاً لتعايش المسلمين والمسيحيين، وغلق دور العرض السينمائي ذات الطابع الشعبي والتي كانت سمة متميزة له كشارع للفن قدم مخرجين رواداً مثل محمد بيومي وأحمد كامل مرسي، وموسيقياً بارزاً مثل بليغ حمدي ومغنين معاصرين مثل محرم فواد ومدحت صالح وسيمون. ويستشهد عفيفي بكثير من الأعمال الأدبية التي رصدت هذا التغيّر، ومنها روايات لفتحي غانم ونعيم صبري، إضافة إلى أعمال سينمائية عدة، منها فيلم «الفتوة» لصلاح أبو سيف، رصدت تغير النشاط الاقتصادي في الحي الذي كان عنواناً للطبقة الوسطى التقليدية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى