حريم السلطان وحريم الرئيس: غَضبَةِ أردوغان «المُضَرِيَّة» واحْتِفالِ العَشيقَة المُؤَرّخَة وذاك السُّؤالِ اللئيم

رشا الأمير

بعد أشهر على شروع إحدى محطّات التلفزة التركيّة ببثّ الموسم الأوّل من المسلسل الأشهر من نار على علم «حريم السلطان»، وكان ذلك عام 2012، انتهز رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان مناسبة اعتلائه صهوة أحد المنابر، فَشَهَّرَ بالمسلسل المذكور، وأطلق لسانه بما يعتمل في صدره، ففضح المسلسل وأصحابه لما يتضمّنه، على رأيه، من مغالطات تاريخيّة فادحة.
فليس للأتراك، على ذمّة أردوغان، أجْدادٌ من قبيل أولئك الذين يصوّرهم «حريم السلطان»، وسليمان القانونيّ، السلطان الذي يتصدّى المسلسل لرواية سيرته، قضى عمره على صهوات الخيول لا في المخادع ولا بين أحضان الغواني.. ولم يكتف أردوغان بانتقاد المسلسل، بل هدّد أيضًا الذين يحمل توقيعهم بالملاحقة القانونيّة، وهذا ما كان، حيث تلقّف أحد نواب «حزب العدالة والتنمية» التهديد السلطانيّ وقدّم عريضة إلى البرلمان ترمي إلى إصدار قانون يكون من شأن تطبيقه وقف عرض المسلسل، لا أكثر ولا أقل، ولم يقتصر الأمر على النائب الشهم، بل تبرّع آخرون برفع دعاوى أمام القضاء التركيّ على مخرجي المسلسل وعلى نجميه الرئيسيّين بحجة الإساءة إلى ذكرى السلطان سليمان. لحسن الحظ أن كلَّ هذا كان في 2012 فلم يتابع القضاء التركيّ السلطة السياسية وأسقط تهمة الإساءة عن المُدّعى عليهم، وتتابع المسلسل مواسم مثنى وثلاثَ ورباع، ودُبْلِجَ إلى العربية، وإلى غيرها من اللغات لربما، ودخل السلطان سليمان وحريمه، ملايين البيوت على امتداد العالم العربي، بل بات فردًا افتراضيًا من أفراد الملايين من الأسر.
لا أدّعي معرفة مُسْتَفيضةً بالتاريخ العثماني، ولا بسيرة سليمان القانونيّ، ولا استهواني أن أتابع حلقات المسلسل، ولكنَّني أعترفُ بأنَّ تَحَوُّلَ المسلسل، بحد ذاته، إلى «قضية وطنية»، (والمسلسلات قد تتحوّل أحيانًا إلى قضايا وطنيّة ) فَتَحَ عليَّ أبوابًا مِنَ الأسئلة لم أظنَّ يومًا أنني مضطرّة إلى الإجابة عنها، أو إلى تسقّط جوابات عنها لدى آخرين امْتُحِنوا بها. أمّا منتهى هذه الأسئلة، على كثرة الوجوه التي تَتَصَرَّفُ عليها، فإلى واحِدٍ أحَدٍ: ما العَمَلُ بـ«الآباء»؟ (وأقول «الآباء» للتأكيد على أنَّ مدارَ السّؤالِ على الجماعاتِ لا على الأفراد).
فبمقدار ما أشْعَرَني انتصارُ أردوغان لجده السلطان سليمان القانوني بالتضامن مَعَ «حريم السلطان»، بصرف النظر عن قيمة المسلسل الفنّية، أشعرتني قراءة رسائل فرانسوا ميتران إلى خليلته آن بينجو بالتضامن معه ومعها على حدٍّ سواء.
فعلى بعد أيام من الذكرى السنويّة المئة على ولادة الرئيس الفرنسيّ السابق فرانسوا ميتران، (26 تشرين الأول/ أكتوبر 1916) وعلى أسابيع من ذكرى وفاته العشرين (8 كانون الثاني/ يناير 1996) نشرت غاليمار، إحدى دور النشر الفرنسية الأعرق، في المنتصف من أكتوبر الماضي، كتابين يضيئان على أحد الجوانب الضبابيّة من حياته الخاصة. كلا الكتابين يحمل في عنوانه اسم «آن»، («رسائل إلى آن» و«يوميّات على نِيَّة آن»)، أما المَحْظوظةُ هذه، فآن بينجو التي لا يزيدُ على سيرتها الشخصية من شيء أنَّ جَدَّها لأبيها هنري بينجو هو مخترع قدّاحة الغاز.
في عام 1957، في الرابعة عشرة من العمر، التقت آن فرنسوا ميتران، وزير داخلية فرنسا، الذي كان قد جاز لتوه عتبة الأربعين. تريد الرواية أن فرانسوا ساعد آن المولعة بالفنون التشكيليّة على الانتقال من مسقط رأسها إلى باريس لمتابعة دراستها، ومنذ ذاك بدأت بينهما علاقة غرامية لم يَفُتَّ منها أن فرانسوا كان زوجًا منذ عام 1944، وأبًا لثلاثة صبيان، ولا فَتَّ منها أنه حتى آخر أيام حياته لم يَنِ يُعَدّدُ العشيقات والخليلات والصديقات.
أثمرت العلاقة بين فرانسوا ميتران وآن بينجو ابنة هي مازارين بينجو، التي أشْهَرَ ميتران، عام 1994، أي قبل عامين على وفاته، على الملأ، أبوَّتَه لها، مُشْعِلاً من خلال إشهاره هذا سجالاً اجتماعيًا وسياسيًا، لم يَخْبُ أُواره بعد. وفي ما يُشبه أن يكون متابعة لهذا السجال، وتَوْسِعَة له، جاء نشر الكتابين المومأ إليهما أعلاه. والحقيقة أنّ ملابسات النَّشْر تستحق التوقّف عندها. فرغم أن هذه الرسائل وتلك اليوميّات حميمة في الشكل وحميمة في المضمون أيضًا، فإنَّ نشرها لم يأتِ في سياق فضائحيّ يرمي إلى كشف مستور يخجل منه صاحباه، بل على العكس من ذلك؛ كيف لا وآن بينجو، مؤرخة الفن، وصاحبة المؤلفات المرجعيَّة في مدارس النحت الفرنسية خلال القرن التاسع عشر، والقيمة الفخرية على متحف أورسي الشهير، في عداد أمور أخرى، بما يحتضنه من لوحات كبار أساتذة المدرسة الانطباعية، (مونيه، مانيه، سيزان، غوغان، فان غوغ وغيرهم كثير) كيف لا وهي نفسُها مَنْ تولّى تحقيقَ الرسائل الألف والمئتين والثماني عشرة مُعَلّقَة عليها، ومرفقة بعضًا منها بما كتبته له من جوابات وردود؛ هذا مع العلم أن هذه المراسلات امتدت من 1962 إلى 1995، أي إلى ما قبل عام واحد من وفاة ميتران.
والحال أنّه متى ما تعلّق الأمر بميتران فلا بأس أن يُؤرّخ المرءُ بتاريخ وفاته لا بأي تاريخ آخر؛ فقبل عامين من ذلك، احتفل فرانسوا ميتران وزوجته دانييل (أم البنين)، باليوبيل الخمسين على زواجهما الذي دام، رسمياً، إلى أن طرق بابهما «هادم اللذات ومفرق الجماعات». بالطبع، لم يكن بالأمر السهل على «الزوجين» الذي أصبح «الزوجين رئاسيًا» في عام 1981 أن يحطّم هذا الرقم القياسيَّ في التعايش الزوجي ــ ولا سيما أنّ صيت فرانسوا ميتران بوصفه زير نساء لم يكن بالأمر الخافي، بل ترد بعض الروايات أنهما شارفا على الطلاق إلى أن قُضي الأمر بينهما، بوساطة بعض «سعاة الخير»، الذين كانوا قد توسموا في فرانسوا مرشحًا رئاسيًا ذا حظوظ، بأن أقرّ كلّ طرف للآخر بحقه في «الاستقلال الذاتي» عاطفيًا وجنسيًا، مع الحفاظ على صورة «الزوجين» عند الحاجة. ولقد يُدْهَشُ البعضُ من مُتابعي «حريم السلطان»، لربما، متى ما عرفوا أن هذه التسوية لم تكفل الدوام لـ«الكوبل» فقط، بل ترجمت عن نفسها أيضًا، يوم أن انتقل الزوجان إلى الإقامة في قصر الإليزيه، بأن اختص الرئيس لنفسه مضافة يستقبل فيها من يشاء من صديقاته، (بل يقال إن الصحافية السويدية كريستينا فورسنيه، التي دامت علاقته بها من 1980 إلى عشيّات وفاته، والتي يُشاع أيضا أنّ له منها ولدًا، كانت تنزل في هذه المضافة لفترات طويلة)، وبأن اختصت السيّدة الأولى بمضافة للغرض نفسه أشْهَرُ مَنْ مَرّ بها، وأطولهم إقامة، عشيقُها مدرب الرياضة جان، الذي كان يصغرها باثنتي عشرة سنة.
يروي رولان دوما، صديق ميتران الشخصي ووزير خارجيته لسنوات طويلة، والمعروف في عداد خصال أخرى، بزيريَّتِه، أنَّ فرانسوا ميتران قال له يومًا: «قد لا ينجح الواحدُ من الرِّجالِ في أنْ يَخطُبَ وُدَّ كُلّ النساء اللواتي يَشْتهي، ولكنَّ احتمالَ الإخفاقِ لا يعذر له العزوفَ عن المحاولة». سواء صَحَّت نسبةُ هذا القول إلى الزير الرئيس أم لم تَصِحَّ، فالأرجح الأرجح أنَّ ميتران عمل بهذا القول حرفيًا، وإنْ يُطالِعُ المُطالِعُ سجلَّ فتوحاتِهِ النسائية لا يملك إلا الشَّكَّ في أنَّ يَكونَ النجاحُ قد خانه في أيّ من محاولاته. فهذا السجل ليس طويلاً فقط، ولكنه عريض كذلك ــ عريض على معنى أن «حريم» فرانسوا ميتران عابرٌ للأجيال وللمهن، بل وعابر للمعايير الجماليَّة. ليس من شأن هذه العجالة أن تتوقف عند كلّ النمائم المحيطة بميتران، ولا عند كلّ اللواتي اتصل بينه وبينهن حبل ما، ولكن لا بأس من تعداد بعض الأسماء: آن سانكلير (صحافية)، آني جيراردو (ممثلة)، إليزابيث تيسيه (بَصّارة) إديت كريسون (سياسية عُيّنت مطلع التسعينيات رئيسة للوزراء)، داليدا (المغنية إيّاها) وغيرهن كثيرات.
لا ما يُدهش في أن تكون سيرة ميتران النسائية قد فتحت الشهيّة على التحليل والتأويل، فذهب البعض إلى أنّ شغف ميتران بالنساء مردّه إلى صدمة مُنِيَ بها مع فشل قصة حبه الأولى، حيث إن خطيبته آنذاك لم تنتظر عودته من الحرب، وذهب بعض آخر إلى أنّ أصل هذا الشغف في نهمه إلى السلطة، وفَرَّعَ بعضٌ ثالثٌ على هذا التَّفْسير فرأى أنّ تَعْديدَ العشيقات وتكثيرهنَّ جزء من ثقافة سلطة فرنسية راسخة على اختلاف العهود والنظم السياسية وهكذا.
بيت القصيد من كلّ ما تقدم أن أحدًا لم يحمل سيرة ميتران النّسائية على محمل الإساءة إلى «تاريخ» أو إلى «تراث»، أو ما أشبه، بل نَحَا البعضُ، على ما تقدَّمَ، إلى تقصّي سوابقَ تاريخية تُنْزِلُ تلك السيرةَ منزلَها من تاريخ ومن تراث لا يَعيبُهُما أن يكونَ الاشتراكيُّ ميتران، العاميُّ الولادة، في سِياقِهِما، سَليلَ ملوك وأمراء يجري في عروقهم دم أزرق، بل أكثر من ذلك: أليس في أن تَنْكَبَّ المُرْسَلُ إليها نَفْسُها، «العَشيقَةُ» المؤرّخة، على تحقيق هذه الرسائل واليوميّات، وعلى وضعها بالتَّصَرُّفِ العام قدرًا من «الشفافية» ومن «النزاهة» يَمْتَحِنُ قدرة ثقافتنا، ثقافة «حريم السلطان»، على الاحتمال؟
لن أكاذب نفسي وأكاذبكم وأزعم أنّ السؤال يتبادر إلى خاطري من فراغ. بلى، في النفس منّي شيء من القعقعة التي تلت نشر غادة السمان عددًا من الرسائل الغرامية (العِجاف) المذيلةِ بتوقيع أنسي الحاج إليها. بصرف النظر عن استحالة المقارنة كمًا ومضمونًا ولغةً ومعلوماتٍ تاريخيةً بين الـ«رسائل إلى آن» والـ«رسائل إلى غادة السمان»، يبقى أن المقارنة في «التلقي»، تلقي الجمهور، تجوز، وأقلُّ أسباب جوازها، بلحاظ ردودِ الفعل المستنكرةِ على السمان فعلَتَها، أن «الأردوغانية» ليست وقفًا على حزب العدالة والتنمية، بنسختيها التركية والعربية، بل «ثقافة سياسيّة» هي في الصَّميمِ من سجالِ الحداثة الذي يُدَوِّخُنا منذ قرن ونصف قرن.
أعودُ إلى «رسائل إلى آن» و«يوميّات على نِيَّة آن»: بين يدَي هذين الكتابين المُطَهَّمَين في الشكل والمضمون والإخراج والتقديم، الاحتفاليين كأبهى ما يكون الاحتفال، (الأوَّل في 1280 صفحة من القطع الكبير، والثاني في 496 صفحة من قطع الألبوم)، يُراودُني أن أعتذر عما استطردت إليه من إشارة إلى «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان». فأقلُّ ما في هذه الإشارة إجحاف مُسْتطير، بل إجحاف من قبيل ذاك الذي يُلْحِقُهُ بِنا أننا لا نَختارُ كُلَّ آبائِنا، بل نَرِثُ بعْضَاً منهم كما نَرِثُ من آبائِنا الطبيعيين الثَّرْواتِ أو الدّيون.
مِنَ الـ«رسائل إلى آن»، رسالَةٌ كَتَبها فرانسوا ميتران إلى مازارين، ابنته من آن، بمناسَبَةِ عيد ميلادها الأول، واستودَعَها الوالدةَ ـ العشيقة: «هيا بك. اكبري… وإنَّما رويدًا رويدًا. عَمّا قريب تَتَفَتَّحُ عيناكِ على العالم وما فيه.. يا لَدَهْشَتُكِ يومَها. سوف يُسْلِمُكُ السّؤال إلى السّؤال، وهكذا هكذا إلى آخر الأمر». صَدَق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى