المقاتل…..للقاص حيدر علي الجبوري

خاص (الجسرة)

الاخبار , أعلنت المذيعة عن بدايتها باستهلالات مقطعة , كان أولها بشارع من شوارع حلب , تتجه حشود من البشر فيه إلى مكان فيه أمن , وخلاص مما يدور في المدينة , رأى جانبي الشارع بقايا أبنية قد أكلتهما فك الحرب الدائرة هناك , ورأى أيضا وهو يغالبه النعاس على فراشه , المقطع الاخير من تلك الأخبار رأى الموصل , كان هنالك مقاتلين , ودخان كثيف في السماء وأناس تهرب نحو الاماكن الأكثر أمنا , وقبل أن يغفو , رأى خبر حرب في اليمن , و أخرى في ليبيا , ثم رأى نفسه ببذلة عسكرية متربة , يقف على مبعدة من مقاتلين مختبئين مثله خلف ساتر ترابي درئا من رصاص الاشتباك , كان لا يجيد السلاح الذي وجده في يده , ولا يدري من يقاتل , أو مع من هو , لكنه خلف ساتر , ويرى المسلحين وهم يطلقون الرصاص , حينها , صحى من نومه على صوت انفجار شديد وقع بقربه , وأخر ما شاهده تطاير اشلاء من كانوا بقربه نحو السماء , أما هو , فقد نجا حينما صحا ولم يطر كما اولئك , لكنه وجد البذلة التي كان فيها في المعركة تحيط بجسده , حتى أن التراب الذي علق فيها قد تساقط أكثره على فراشه , و نفس خليط العرق والغبار في جسده ما يزال يشم رائحته عبر أمكنة وأزمنة مختلفة , واكتشف مما نقل من مكان القتال , رسالة بجيب بذلته , كانت من مقاتل لم يعرف اسمه قط , ومع من , تذكر مما قاله المقاتل حينما أعطاه اياها : حينما تصل , أريدك ان تعطي هذه الرسالة , فلم يعد هنا وقت للحياة , ولا مكان للحياة. اراد عبر تحريضه لذاكرته معرفة اين هو كان , ولاجل من كان يريد القتال , ولمن يوصل الرسالة , فقاده اغماءه نحو المعركة ايضا , حقا , هو اراد الوصول الى الجبهة , فربما سيكتشف كما حرض في البدء ذاكرته في معرفة بعض الاسباب , سيحاول اكتشاف لاجل من هذه الحرب , وربما سيجد خلاف ما يقوله المحللون ويتوصل للحقيقة عبر عالم مناف للواقع , وكما الحرب التي لا تمت مهما كانت اسبابها بليغة , لا تمت لواقع الحياة بصلة لاي شيء . في اخر دقيقة للهدنة , وصل فبدا الاشتباك كانت بندقيته نفسها بيده , ثم صار يركض عبر افعوانيات الخنادق نحو جهة مجهولة , هو يركض خلف من امامه , بلا قضية , مجرد راكض مسلح ربما سيموت بأي لحظة , فبدأ مجددا بتحريض حواسه , وحاول بذكاء خاطف ممازجة واقعه هذا بغير واقع كان هو فيه , فسأل بعدما اوقف جندبا خلفه : من نحن ؟.
-اننا المحقون , هكذا قالوا لنا , الم تسمع جيدا ما اخبرونا به منذ اول يوم من الحرب؟
وفي نهاية الخندق , ثمة عشرة امتار كان على الجميع اجتيازها كي يدخلوا دروبا ما بين بيوت ومبان مدمرة , ثم بعدها الوصول نحو نقطة الالتفاف للنيل من مجموعة من العدو , هكذا تسربت اليه الانباء من قبل البعض , وحينما وصل تلك الدروب , كان يقلب انظاره نحو الدمار , وهو الوحيد الذي لم يصوب سلاحه كما الاخرين نحو اعلى البنايات و ثغراتها ,فأخطأ كما اكتشف او كما هم اكتشفوا حينما سأل ثانية نفس المقاتل , فقد تم احتجازه , واعلنت المحكمة العسكرية بنفس الشارع الذي كان فيه , اعلنت اعدامه والتخلص منه. قال قبل ان يرمى بالرصاص : كان حريا ان تطلقوا علي الرصاص في السؤال الاول , لان سؤالي الاخر لم يكن بالخطورة في كشف الهوية التي نحملها ,قد استفسرت : اين نحن . برصاصة واحدة , تمت اصابته بساقه , وتركه هنا , فربما سيأتي من يقول له اين هو الان , وبالفعل , بعد ساعات قليلة من الاشتباكات والقتال المخيف , رأى مدرعات تتقدم نحوه قادمة من اول الدرب , ثم رأى بضعة جنود يحتمون بجانبها يتقدمون نحوه , وبصعوبة كبيرة , حاول تحريض افكاره نحو الاحداث التي حلت به , وان يغير وجهة تواجده نحو اليقظة , لكنه وقبل اللحظة الاخيرة من محاولته , احس بيد تمسك به , يد جندي قد فقد اسنانه الامامية حينما تبسم بوجهه وهو يقول له : في الحروب , احيانا يشح الموت ويكون امنية من يريد ان تنتهي المعركة , لكنه سيجد قبل ذلك الهزيمة وذل الاسر , اما المنتصر , فلا اجمل من وقت عنده , حينما يشاهد احد الاعداء بين يديه . لم يكن الامر بالغريب عليه , فالرصاصة التي مزقت جزءً من ساقه , لم يكن من فعلها الالم , والنزف الذي استمر طويلا , كان كأنما نبع متدفق كأي بئر في أي ارض , لكن الغرابة التي كان يستشعر بها , انه لم يعد بمقدوره العودة والاستيقاظ كي يتخلص من هذا الكابوس , فالقيود التي احيطت به كانت مجرد وهم بامكانه فكها كلما حاولوا تقييده بها , وفي خبر جاء اسريه , ان كل الاتصالات التي اجريت مع كل جهات القتال , لم تكن تعرف من هو , او لمن يكون , فقد اريد من اسره مقايضته لو برفاة جندي من جنود المجموعة , لكن احدا لم يكن يريده , وتقرر بتلك المجموعة ايضا تركه وشأنه , لا لانه لم يكن نافعا , بل ايضا ربما يكون صحفيا لا احد يحتمل مسؤولية حياة صحفي حتى في اقذر الحروب . وبهكذا ضرف , وجد نفسه , بلا أي انتماء لهذه الحرب , الحرب التي لا يعرف بأي مكان هي , او بين من , لكنه كان يدري انها ممكن ان تكون ذا نفع لو انه كان مع الكل , وضد الكل , سيكون , كما تصور المقاتل الذي سيرمي الرصاص في كل الاتجاهات , لن يقدر احد على مجابهته . فكان اول ما فعله محو الرصاصة التي استقرت بساقه , ثم حمل البندقية التي وجدها بيده اول مرة , و بعد ذلك , فتش في جيوبه عن أي اوراق تشير لتعريفه في الاقتتال , فوجد الرسالة التي سلمها الجندي له ,ما لفت نظره : لم يكن هنالك أي فضول في معرفة ما كان مكتوبا بتلك الورقة , وفي حفرة كانت من صنع قذيفة رمى الرسالة , فترك المكان متجها عكس ما اتجه اليه الجنود , بعدما تمسك بالبندقية من فوهتها , ورمي مقبضها على كتفه , كان يستمع لصوت القصف الاتي من كل الجهات , ويشاهد الخطوط البيضاءالتي ترسمها الطائرات في السماء. تساءل ان كان الان هو في حلب , او في الموصل , او ربما في حرب بعيد الزمن , في كوسوفو او الشيشان , فلا علامات طرق تشير نحو أي مدينة او أي مكان , تذكر ان آخر ما شاهده كان تحليلا سياسيا حول ما يجري في المنطقة عموما , ما قاله المحلل منطقي رغم ان اغلب المحللين ما عادوا قادرين على ربط أي حدث بما يجري , ربما هم ايضا اضاعت بوصلاتهم الاتجاهات الحقيقية .وما كان منطقيا في التحليل الاخير الذي استمع له كان يشير الى ان ازمة الاقتصاد العالمي لن يسمح لها العالم ان تتكرر , البلدان النفطية عليها انعاش الاسواق بشراء الاسلحة , ولاجل ان تزدهر صناعة االسلاح , فلا بد من حروب , ومن عليه القتال هي تلك البلدان التي اغرتها اموال النفط , النفط كما كان يقول المحلل يجب ان يستمر , لكن امواله ستذهب للحرب , وليس الى الجيوب. فقاطع المحلل صوت عال كان قد اتى من احدى المباني المقصوفة يامره بالتوقف ,وبالفعل , قد استجاب , ثم رمى بندقيته بعيدا عنه ورفع يديه مستسلما , رأى صاحب الصوت يخرج من فتحة نافذة وهو يتقدم نحوه , وفي هذه المرة , عبر السؤال الذي سمعه , وجد ثمة مجال لو صغير في النفاذ وتحرير شيئا من ذهنه نحو عالمه المادي , فقد سأله ذلك الشخص عن آخر ماكان ان يشاهده قبل ام يغفو , واي قناة اخبار كان يتابع , فأخبره انه كان يتابع قناة الحدث الاخبارية , هي محطة فضائية تعيد الخبر الواحد اكثر من الف مرة في اليوم , وانها مختصة بنقل اخبار الحروب بصيغة البث المباشر , وقد اتفقت مع كل جوانب القتال بارسال طائرات صغيرة تصور المعارك وهي تدور . اما ذلك الاخر , فقد شط ذهنه بخبر واحد لا غير , كان مولعا بمشاهدة مباريات كرة القدم , لكن خبرا واحدا قد ارسله به نحو هذه الجبهة , في البدء , لم يصدق ان مدربا عالميا لكرة القدم يسكن في منتصف اوروبا , في تلك البقعة الخضراء الجميلة بكل ما فيها , لم يصدق ان مثل الشخص بأمكانه في لحظة ان يختفي , ثم يظهر وهو يحمل سلاحا فتاكا في شريط مصور ويهتف لاجل القتال في بادية كانت تحيطها الافق من كل الجهات , ويلتف حوله الكثير من الشبان , رأى بينهم لاعبين محترفين في نواد مشهرة , احدهم كان يلعب في نادي برشلونة , ولمح فيه نفس سيماء الغضب التي كانت ترافقه في الملاعب.
لم يكن بالطبع يعرف ما الذي جعل المدرب ان يتحول بهذه السرعة الى النقطة المقابلة من دائرة حياته , لكنه وبطريقة غريبة , وجد نفسه في تلك البادية التي رأى فيها المدرب , ووجد طبعات احذية تتجه نحو افق من الافاق , ولا خيار سوى ان يسترشد بها , بعد ذلك ارشده الخوف من ازيز الرصاص ووقع القنابل نحو مدينة مهجورة , ثم اختبأ في واحدة من بيوتها , اختبأ من مقاتل اراد قنصه فاخطأ , اكتشف بأنه قد جر لمعركة , ولعدو يجهله , فبدأ بعد اليأس من مناشدته لذلك القناص بأنه لا دخل له بما يجري , وانه وكما الكثيرين قد سحبه كابوس ما لهذه الحرب , فشرع بالتحضير لاعدادات المعركة : مكان محمي , سلاح , الاستباق بالانقضاض على العدو . وفي ثاني اشتباك , وقع القناص كفريسة سهلة غبية وغير مدربة بواحدة من رصاصاته , وشاهده كيف يتهاوى من اعلى البناية نحو الارض , ثم اتجه اليه كي يرى اول انسان اطلق عليه الرصاص في حياته , كان محطما بفعل سقطته , ومدمى بلا ملامح , قلبه بقدمه باحترافية مقاتل بحثا عن اشياء قد تهمه , فوجد في جيبه محفظة سمينة بما تحوي من اورق ثبوتية وعملات مختلفة لدول كثيرة, وجد عنده الكثير من الهويات , هوية الصليب الاحمر , وهوية رسمية فيها توقيع وزير الدفاع , وهوية نقابة فنانين ,هوية حزبية , كل هوياته كانت تحمل صورته نفسها
– فلم اذن ما زلت تختبيء بين الحطام و تترصد كل من آت؟
-هنا المشكلة الحقيقة . قال متابع كرة الاقدم , فبعد ان تركت الجثة , رأيتها تركض وتبتعد عني , ثم بعد ذلك تم اطلاق الرصاص علي من فوق سطح بناية هناك , ولم اعد اقدر حتى التحرك كي لا اكشف نفسي , في هذه الحرب , صناعة الموت تتم بحرفية عالية من قبل العالم العميق , انه عالم يتحكم بمصائر البلدان حتى يحيلها الى جبهات شاسعة , يتم استقطاب البشر اليها بكل سهولة بطريقة غسل دماغه مهما كان فيه من ارتقاء معرفي , وجودك انت هنا , ووجودي , والمدرب , وربما سنجد بعدئذ فلاسفة يحملون السلاح , ويقاتلون من اجل القتال , اما ما يعتقدونه , فهو مجرد وسيلة تم تصنيعها بمصانع ذلك العالم , سيجدون , كما انت وانا , سيجدون الحرب في منازلهم , تنقل لهم مباشرة , وبلحظة ما , سيجدون , كما انت وانا , انهم بين المقاتلين.
– اتدري ؟, لقد اطلقوا علي النار ولم امت , كنت اشعر بكل شيء , ورأيت دمي ينزف , لكنني لم افارق الحياة , حاولت ان اعود الى سريري لكن دون جدوى , وكأن لا مخرج من هذا المكان , انا مضطر لان اعايش هذا الكابوس , بيد اني لا ارغب في الانضمام اليه , شأني شأن أي متفرج على التلفاز , لا ارغب في أن اكون مقاتلا .
– كنت مثلك تماما , لكن ذلك القناص عرف كيف يجعلني اقاتله, انه يرينا كيف يموت , وفي الحقيقة يريد منا ان نموت , وبالنسبة لي فانا اريدك معي مقاتلة ذلك الشخص, وربما سيأتي آخر لتدعوه انت ليقاتل معك , وربما , سيقاتل بعضنا البعض فيما بعد .
في محاولة للتخلص من القناص , وعلى طريقة فيلم العدو على الابواب , اخرج متابع الاخبار رأسه من اجل ان يستهدف برمية ثم يباشر صاحبه بالتقاط العدو برمية ايضا , وبالفعل , تمت الخطة بنجاح, وهرعا بسرعة نحو القتيل , كان نفس القناص الذي قتل اول مرة , وملامحه هذه المرة بدت واضحة جدا , وبدا ايضا جميلا وصغيرا في السن , فلم يعثرا بعد تفتيش جيوبة غير محفظته تلك , وبنفس ما كان فيها , حينها حذر متابع كرة القدم الاخر باستفاقة هذا الشخص بأي لحظة , فهو الان راقد بفراشه , وفي لحظة ما يعود فيهرب ,و ربما يطلق الرصاص عليهما , انتظراه كثيرا وهم فوق سطح عمارة من خمس طوابق , كانت السماء تمطر عليهم , وبعض دوي بعيد لقصف مدفعي يدخل اذانهم , وقبل المساء , انتبها الى تحرك قدميه , شاهداه كدودة تحاول الخروج من تحت التراب , فاستعدا لمواجهته مرة اخرى حالما يستعيد كامل وعيه , لكنه كان اكثر تعبا من ان يكون هنا , في معركة بلا نهاية , كان متعبا , بروح خائرة في جسد ملقى , وحينما فتح عينيه , سأل متابع الاخبار ان كان قد اوصل رسالته التي اعطاها له , خالط سؤاله بعض من الواقع , حينما استيقظ ولقى الرسالة بجيه , وبعض من الحلم , بعدما رمى الرسالة ومضى , فأجابه بالحقيقة , وانه سيجدها في حفرة من ملايين الحفر التي صنعتها القذائف , او هي من ستأتيه عبر سيول المطر , او الدماء . وبيأس غلب على المقاتل , قال : يبدو ان لا اوان لنهاية الحرب التي سحبوا كل العالم اليها , حتى من في بيوتهم , كبارا وصغار , لقد كنت انت المنفذ الوحيد لي بأن توصل الرسالة الى العالم الواقع , فهذه الحرب كابوس حقيقي , وبالامكان الاستيقاظ منه لو اردنا , فيه نتحول الى كل شيء , واي شيء , وها انا , قال , وكان كمن يختفي ويتلاشى عن الانظار شيئا فشيئا :
بمحفظتي اكثر من هوية ، اعبر من خلالها كل الشوارع التي يدور فيها القتال، انا مع من يطلق الرصاص، ولي هوية تغيث الخائفين ، ابيع السلاح، واعطي الطعام ، والخيام ، الكل يعرفني، انا مع الاعداء ، والاصدقاء ، مع الحرب والسلام ، انا لي هوية تحمل صفة منافق، واخرى ضابط، واخرى معارض، وعندي هوية تقربني من الله ، كل هوية من هوياتي تحمل صورتي، ومن اكون ، واينما اكون، لكنني نسيت بين زخم الصفات ، اسمي الاول الذي اتيت به، ومكاني الذي كنت فيه..بمحفظتي اكثر من هوية ، وكل من كان يقلبها وهي بجانب جثتي، يمزق واحدة من هوياتي، حتى عدت بلا اسم، ودون ان يعرفني احد….
Attachments area

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى