شارل بودلير في ذكرى رحيله (150 سنة): بعيدا عن مطهر الثياب

منصف الوهايبي

شارل بودلير(1821/ 1867) الشاعر والكاتب والصحافي والمترجم (مترجم أدغار الان بو)، حبيب النساء الذي كانت أمّه تحتقره وتزدريه، نشر عام 1857 قبل رحيله بعشر سنوات، أثره الباقي «أزهار الشرّ»(ترجمها الراحل المغربي مصطفى القصري باسم» أزاهير الألم»). وهو كتاب شعريّ تخطّى أثره حدود الآداب الفرنسيّة، وكان له شأن في الشعر العربي الحديث (السوري علي الجندي خاصّة). وقد ذاع كتابه أكثر من «كلمات» جاك بريفير و»عيون إلزا» للويس أراغون، دون أن يذبل، بل إنّ أزهاره لا تزال تتفتّح، وتستدعي القراءة من المنظور الجمالي الذي بدأ معه هو أساسا؛ عندما قلب معادلة الفهم أوّلا فالانفعال والتأثّر ثانيا؛ فنحن في الفنون الحديثة ننفعل ونتأثّر، ولنا بعد ذلك أن نفهم أو ألّا نفهم، والفهم من منظور جماليّ خالص، قد لا يكون ضروريّا.
وبعبارة أخرى، فإنّ مصدر الانفعال الفنّي، معنى ما يرتبط بالقول الشعري، بشكل غير واعٍ. وهو من ثمّة يظلّ محفوفا أبدا بقدر من الغموض، أو عصيّا على الإدراك. على أنّي تخيّرت في هذه الفسحة، أن أنقل إلى العربيّة نصوصا ممّا يعرف بـ»قصيدة النثر» عند بودلير، أو «سبلين باريس» أي «سأم باريس» على ما في هذه الترجمة من قلق العبارة. وهي من كتابه الذي ظهر بعد رحيله. على أنّها نصوص كتبها بودلير قبيل رحيله بسنوات قليلة، بفرنسيّة سلسة، وكأنّها فرنسيّة اليوم، بل هي تكشف عن منحى سرديّ في تجربته. وليس هذا بالمستغرب من بودلير وهو الذي كان يطمح إلى كتابة الرواية، وكان يصنّفها إلى «قويّة» و»غريبة» أو»عجيبة».
إنّ استعمال مقول ما باعتباره قاعدة يجري عليها الجنس الأدبي، يفترض ثباتا ما، حتّى يحتفظ بصلاحيّته ويحافظ على وظيفته «التّقييميّة»، أو يكشف عمّا يمكن أن نسمّيه نظاما من التّمثّلات المعياريّة يٌقاسُ عليها. وأقدّر أنّ هذا ممّا كشف بودلير تهافته؛ فإذا كانت الأنواع أو الأجناس ثابتة (الشعرـ القصّة ـ الرواية ـ المسرحيّة) فإن أشكالها متغيّرة لا شكّ. وطالما اعتبرنا أنّ مدار الخطاب إنّما هو على ذات وعلى خبرتها باللغة وبالعالم، أمكن أن نتوقّع تبدّلات الشّكل والأسلوب، وأن نتقبّل حتّى أكثرها غرابة وشذوذا، بحيث نرى القيمة الجماليّة في المتغيّر من الأشكال، أكثر ممّا نراها في نموذج يُحتذى أو قاعدة – معيار يُمتثل بها، ويُحتكم إليها. والعلاقة بين القاعدة أو القانون أو السنّة والنصّ علاقة شدّ وجذب والنصّ ليس بالضّرورة حصيلة هذا أو تلك. وثمّة درجات من المقبوليّة تختلف باختلاف الموقف الذي يتّخذه الكاتب من قواعد الكتابة. والنوع الأدبي أو الجنس إنّما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد أو سنن، قد يلتزمها الكاتب وقد لا يلتزمها، بل ربّما حافظ عليها وخرقها في الآن ذاته أو استبدلها بأخرى؛ لأنّ ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها. وأقدّر أنّه هذا بعض ما نتعلّمه من شارل بودلير.

ظريف (لكنّه ثقيل)

كان ذلك يوم أُعلن العام الجديد على الملأ: رُكام من الوحل والثلج، تقطعه آلاف العربات الفاخرة بجيادها الأربعة، تتلألأ فيها لعب الأطفال والحلوى، وتعجّ جشعا وأسى. هو هيجانُ مدينة ضخمة، رسميٌّ، يحدث، ليُفقِدَ حتى أشدّ الناس عزلة، رشادهُ. في زحمة هذا الهرج والمرج، والضوضاء، كان هناك حمار يخبّ بنشاط، تحت سياط رجل فظّ. وإذْ كان الحمار يتهيّأ ليدور حول زاوية رصيف، ظهر رجل صبوح، بقفّازين، محظوظ يبرق وجهه، شدّ رقبته شدّا بربطة عنق، وهو محصور في ملابسه الجديدة، وانحنى بأناقة الاحتفال أمام الدابّة الذليلة، وخاطبها؛ وهو يرفع قبّعته: «أرجو لك عاما طيّبا سعيدا». ثمّ استدار بخيلاء، نحو واحد من رفاقه، كأنّه يسألهم أن يصادقوا على ازدهائه. أمّا الحمار فلم يرَ هذا الظريف الصبوح، وواصل سيره بحماس، إلى حيث يدعوه الواجب. أمّا أنا فقد أخذتني فجأة نوبة من الغضب من هذا الأحمق البهيّ الذي بدا لي كأنّه يختصر في شخصه عقل فرنسا كلّه.

الكلب والقارورة

«ـ تعال يا كلبي الجميل، يا كلبي الطيّب، اقتربْ، وشُمّ هذا العطر الفاخر؛ أنا اقتنيته من أفضل عطّار في المدينة». غير أنّ الكلب اقترب، وهو يشيل ذيله؛ وهذا على ما أظنّ علامة ضحك أو تبسّم، عند هذه الكائنات البكماء؛ ووضع خطمهُ الرطب على القارورة، وقد رُفعت سِدَادتها، ثمّ تقهقر فجأة، مذعورا، ونبحَ عليّ مؤنّبا.
«ـ آه ايّها الكلب الشقيّ، لو منحتك صرّة فَضلات، أما كنتَ تتبّعتَها بأنفك، وتشمّمتَها ملتذّا، وربّما التهمتَها. هكذا يا رفيق حياتي الحزينة، ولأنتَ غير أهلٍ لها؛ تشبه الجمهور أيضا؛ ذاك الذي ينبغي ألّا نقدّم إليه أبدا عطورا فوّاحة تُهيّجه، بل قُمامات مُتخيّرة بعناية».

النوافذ

الذي ينظر من خارج، من خَلَلِ نافذة مُشرعة، لا يرى أشياء أكثر، من الذي ينظر إلى نافذة مُوصدة. ليس ثمّة شيء أعمق، وأشدّ خفاءً، وغِنًى، وظلمةً، وألقًا، من نافذة تضيئها شمعة. وما نراه في وَضَح النهار، هو دائما أدنى قيمة، ممّا يحدث خلف زجاج نافذة. في هذا الثقب الأسود أو الساطع، تحيا الحياة، وتحلمُ الحياة، وتتوجّع الحياة. من وراء موجات السقوف، أرى امرأة في سنّ النضج، وقد تغضّن منها الوجه، معوزةً، منحنيةً دائما على شيء ما، وهي لا تبرح البيت أبدا. من وجهها، من ثوبها، من حركتها، من لا شيء تقريبا، أعدت ثانية صياغة سيرة هذه المرأة، بل لأقلْ أسطورتها؛ وكنت أحيانا أرويها لنفسي وأنا أنشج. وحتّى لو كان شيخا تَعِسًا، لكنت قد أعدت أيضا صياغة سيرته، بكلّ يسر. ثمّ أضطجع راضيا، بأنّي عشت وتعذّبت، في حَيوَاتِ آخرين غيري. ربّما تقولون لي: «أَأنتَ متيقّن من أنّ هذه الأسطورة هي الحقيقة؟» وماذا يهمّ ما يمكن أن تكون عليه حقيقة الأشياء خارج عالمي، إذا كانت قد ساعدتني على الحياة، وعلى أن أحسّ أنّي موجود، وأن أستشعر من أنا؟
الغريب
ـ قل أنت أيّها الرجل الغامض، من تحبّ أكثر؟ أَأَبوك أم أمّك؟ أأختكَ أم أخوك؟
ـ أنا لا أب لي ولا أمّ، ولا أخت ولا أخ.
ـ وأصدقاؤك؟
ـ أنت تستعمل كلمة، لا يزال معناها مجهولا عندي، حتّى اليوم.
ـ ووطنك؟
ـ أنا أجهل تحت أيّ خطّ عرض يقع.
ـ والجمال؟
ـ لي أن أحبّه بطيبة خاطر رائعا خالدا.
ـ والذهب؟
ـ أكرهه كما أنت تكره الآلهة.
ماذا تحبّ إذن، أنت أيّها الغريب العجيب؟! ـ ايه
ـ أحبّ السحب… السحب التي تعبر… هنالك… السحب العجيبة.

قنوط العجوز

كانت البهجة تغمرالعجوز المتغضّنة القصيرة ، إذ ترى هذا الطفل الجميل الذي كان الجميع يحتفي به، ويريد أن يكون محلّ إعجابه؛ هذا الكائن الجميل، أخوها في الهشاشة؛ هي العجوز القصيرة، وشبيهها أيضا، فلم تبزغ له أسنان بعد، ولا نبتَ شعر. دنتْ إليه فجأة، تريد أن تبتسم له بابتسامة طفل، وتهشّ له. بَيْدَ أنّ الطفل أخذ هَلِعًا يتخبّط مقاوما مداعبة المرأة الطيّبة المتهدّمة الفانية؛ وهو يملأ البيت بصراخه الثاقب. عندئذ انسحبت العجوز الطيّبة إلى عزلتها المضنية، وهي تنشج في ركن، وتقول لنفسها: «آه يا لنا نحن العجائز الشقيّات، لقد ولّى زمن فتنتنا، حتّى عند الأبرياء؛ وها نحن نُفزِعُ حتى الأطفال الذين نستدرّ حبَّهم».

المجنون وفينوس

يا له من يوم رائع، البستان الفسيح، مأخوذ تحت عين الشمس الحارّة، مثله مَثَلُ الشباب إذْ يستبدّ بهم الحبّ. إنّ النشوة العامّة نشوةَ الأشياء، لا تفصح عن نفسها بأيّ صوت كان، والأمْواهُ نفسها كما لو أنّها أخلدت إلى النوم. هنا فيضٌ من الأنوار، يَنِدُّ عميقا، عن احتفالات البشر. كما لو أنّه ضوء يُشعّ أبدأ، يجعل الأشياء تتوهّج أكثر فأكثر، والزهور وقد هاجت، تتوقّد رغبة في أن تُباريَ زرقةَ السماء، بقوّة ألوانها الزاهية، فيما الحرارة تجعل الأريج مرئيّا، وهي ترفعه إلى الشمس، مثل الدخان. في هذه الأثناء، وفي خضمّ هذه البهجة العارمة، لمحت كائنا محزونا، يقعي تحت أقدام تمثال فينوس ضخمة، هو أحد هؤلاء المهرّجين المتطوّعين لإضحاك الملوك، إذ يستبدّ بهم الندم أو السأم؛ وقد لبس زيّا غريبا، باهرا مضحكا، واعتمر قرونا وأجراسا، وهو يستجمع قواه قبالة قاعدة التمثال، ويرفع عينين مبلّلتين بالدموع، إلى الإلهة الخالدة. كانت عيناه تقولان:» أنا آخر البشر، وأكثرهم وَحدة، محروم من الحبّ ومن الصداقة، وأدنى، في هذا من أحطّ الحيوانات. وأنا أيضا إنّما خلقتُ، لأدركَ الجمال الخالد وأستشعره. آه حنانيْك أيّتها الإلهة، ألا رِفقًا بحزني أنا وبُحْراني». لكنّ فينوس قاسية القلب، سرحتْ بعينيها المتحجّرتين؛ بعيدا إلى حيث لا أدري.

(القدس العربي”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى