شوقي أبي شقرا «الساحر» شرّع المخيلة على آفاق الشعر

سليمان  بختي

بلغ الشاعر اللبناني الرائد شوقي أبي شقرا الثمانين، فتحلق للمناسبة حوله اصدقاء من شعراء ونقاد محتفلين به وبتجربته الفريدة في الشعر العربي الحديث، مستعيدين مساره منذ مشاركته في تأسيس حركة «الثريا» فإلى انتمائه الى مجلة «شعر» التي كان واحداً من فرسانها المجددين. ويتهيأ ابو شقرا الآن لإصدار مذكراته التي يسترجع فيها صور ماضيه شخصاً وشاعراً وهي صور بيروت في اوجها الثقافي. هنا بروفايل للشاعر.
< منذ ديوان «أكياس الفقراء»(1959، منشورات حلقة الثريا) حتى ديوان «تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة» (2005- دار نلسن)، حمل الشاعر شوقي أبي شقرا في تجربته الشعرية ذروة الخيال إلى القصيدة العربية الحديثة. وهكذا، فإنّك كلما قرأته قد يعلق السؤال عينه في خاطرك: هل في وسع الخيال أن يتقدّم أكثر؟ هل في وسع الحلم أن يحلم أكثر؟ هل يمكن إغواء الشعر أن يحضّ الشاعر على الدخول في الغواية، وهل بإمكانه أن يحضّ الشاعر الحالم على ابتكار جهاته وزواياه وأبعاده وتدوير عوالمه؟ انه الخيال شعلة اللغة على ما يقول باشلار. لكنّ شعلة الخيال لدى شوقي أبي شقرا كانت عالية الوهج والشكل والنبرة، بل كانت في النسيج اللغوي والمعنوي وفي تجربة الحياة الكيانية الوجودية برمّتها. الألم المستبدّ بالخيال.
مخيّلته هي عبقريته مشتغلاً بلا كلل على تثبيت الجسور بين المادة والحلم. يهرب من طفولة معذبة عن طريق الخيال. يهرب من مكان «القرية» الفردوس المفقود ويستردّه بالخيال. يهرب من ألم غياب الوالد المبكر ويستعيد أسطورته في الخيال. يهرب من هزائمه وانكساراته ويستردها بالخيال. لم يكن في حوزته سوى الخيال حتى يعيد تركيب الزمن الذي انكسر والحياة التي تعطّلت في أول العمر والأمل المتناثر هباءً.
أوَليست مهمة الشعر في انشاء علاقات جديدة بين الشعر والوجود والآخر؟ أوَليست مهمّة الشعر أن يضع المكان في قلب الكلام مثلما يضع الكلام في قلب المكان؟ أوَليست مهمة الشعر أن يحمل التعزية إلى قلب كلّ من يحتاجها؟
حمل شوقي أبي شقرا كلّ الأسئلة التي واجهته في الحياة وأحالها على القصيدة لتجيب عنه ومنه ومعه عن المأزق الذي أوصله إليه الوجود. بحث عن مكان وزمان جديدين ووجد القصيدة. رأى لغته على الأشجار دانية القطوف فقطف. جعل من شعره خريطة حيّة ناطقة بالأمكنة والأزمنة والأشخاص والأشياء تروي ما عجز النطق أن يقوله. جعل من كلّ ذلك أسطورته الوحيدة. حصانه الذي يصهل وحيداً في فضاء أو جدار.
لم ينتظر ترتيب الألفاظ في النطق وفق ترتيب المعاني في النفس، على ما يقول الجرجاني، بل عمد إلى «الخربطة». بادر إلى الفعل والمفاجأة مثلما فاجأته الحياة بأقدار مأساوية. «كل القرميد المنكسر عكازتي»، يقول.
استعان شوقي بحيلة الخيال. استعان بالصورة على ثقل المعنى. استعان بالحلم وبالانعتاق إيماناً بولادات جديدة وحيوات محتملة. أبقى على المغامرة حيّة في داخله، وجعلها طريقاً للكشف واليقين ثم واصل السير إلى نار التلة.
لكنّ السؤال يبقى: هل في وسعنا أن نعيد الصورة الشعرية إلى عناصرها الأولى، إلى المواد الخام قبل التئام الأشكال، قبل التمثّل والتشكيل والتظهير؟ هل بإمكاننا ملاحظة العادي كيف يرتقي إلى الأسطوري؟
في عام 1995 حملتُ أسئلتي إلى شوقي أبي شقرا وسألته عن أدوات الشاعر، عن الخيال الذي لا يهدأ ولا يستكين. فأجاب: «سلاحي القلم والخيال. هذا الخيال الذي أوصلني إلى أبعد ما يكون. وهو الذي أرضاني وجعلني من أكون. الخيال العظيم. وأعترف أن ما لديّ من الخيال ربما لا يملكه أحد. وربما جرّ عليّ مشاكل وصعاباً. أعيش في الخيال أكثر من الواقع وكيف سأرضى. هذا الخيال استعملته بكل ما في الكلمة من معنى، وهو الوسيلة الوحيدة لأرتوي ولأسحب مياه العالم حولي وأضعه كما أريد. وصوّرته كذلك وصهرته فيّ وأظهرته ثانية بصيغة أخرى. هناك عموماً ثلاث مراتب للخيال والثالثة هي الجنون. وأعتقد إنني وصلت إلى الجنون وما زلت سليماً معافى. ولا اعتقد أنّ غيري لامسها قبلي. ربما، لأنّ تربيتي غلط، فوصلت بناء لذلك إلى أقصى الدرجات».
هذا شعر وليد معاناة وصبر واختزان. شعر يأتي من إيمان كبير بقضية الشعر. عانى شوقي أبي شقرا مرتين. مرّة لانتمائه إلى الواقع ومرة لتجاوزه والحلول في الخيال وصناعة القصيدة. عانى على ارض اللغة، وعانى على أرض الحلم. عانى لأجل جمالية الشعر في المعادلة الصعبة التي تحول الواقعي إلى مجازي لغوي خيالي والعكس.
نحتاج في شعرنا إلى صوت معلّق في سقف البيت ويتدلّى مثل أشياء القرى ليدلّنا إلى الجذور والبدايات والأصول والينابيع. ليعيد تعريفنا إلى هذا العالم الذي نسيناه أو كدنا. نحتاج في شعرنا إلى حامل لواء الخيال فوق رأس طفل يلهو فاقد المكان، فاقد الأمان، فاقد الزمن. نحتاج في شعرنا إلى صوت التطهّر من الآثام والمرارات والفجيعة. نحتاج إلى من ينتقم من الحياة من دون أن يجرحها. الانتقام النبيل الذي يرتقي في دروب الجمال محتفظاً دوماً ببراءته ونقاوته وأصالته.
تخطى شوقي أبي شقرا عتبة الثمانين – اطال الله عمره – ولم تزل روحه طرية وراغبة في اللعب باللغة وبكل ألوان الدهر، وكتابة الذكريات في سرور الانقضاض على الشجاعة وفي أسى أصداء المرارات.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى