الشاعر السوري عمر الشيخ: الأعلام الطائفية تغطي أنفاس الأشجار في دمشق

دلدار فلمز

مقارنة بشعراء جيله يبدو الشاعر السوري عمر الشيخ مختلفاً، خاصة في ما يستخدمه من أساليب وطرائق التجريب والتجديد الشعري. أصدر ثلاثة دواوين شعرية، إضافة إلى عمله في إعداد البرامج التلفزيونية في بلاده. يقيم الآن في قبرص، ويكتب في الشؤون الثقافية لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونية. هنا حوار حول تجربته..

الشعر متسولاً

■ كيف ترى دمشق اليوم؟ مدينتك وعالمك الروحي والشعري؟
□ المدن عادة لا تُغير شكلها إلا حين تعصف بها الكوارث الطبيعية والحروب، ودمشق لم تعد للناس، باتت لأمراء الحرب والشعر يتسول في الشوارع ذاكرة وعشاقاً تارة، وأحزاناً وبيوتاً معتمة وحيدة تارةً أخرى. مضى عام على فراق الشام، حيث ولدت ودرست وعملت، وكنت أعيش يومياتي بكل صخب القراءة والكتابة والحلم، أبحث عن تفاصل الشعر، صور الشوارع ووجوه الناس، عناوين الكتب تحت جسر الرئيس، أصوات الأصدقاء على طاولات المقاهي. دمشق استبيحت جراحاً وجغرافيا، وباتت أشكال الأعلام الطائفية والحزبية والسياسية، تغطي أنفاس الأشجار وعيون الزوايا وضجر المشردين. تركت منزل أهلي في نهر عيشة أثناء معركة دمشق في شهر تموز/يوليو 2012 تحديداً في اليوم الثاني عشر، أذكر جيداً كيف جاء صديقي بسيارة أجرة إلى أوتستراد دارعا، حيث يقع منزل أهلي، ليقلني بعيداً، أخذت حقيبة ثيابي وبعض الكتب وكمبيوتري المحمول، لم تكن ثمة حواجز بحجم ما هو موجود الآن، ثم انطلقنا إلى جرمانا جنوب دمشق، حيث أكملت أيامي هناك حتى الرحيل مرغماً عن سورية. بين ديواني الأول «سمّ بارد» الذي كتبته هناك وديواني الأخير «مباشر من جزيرة المونتاج»، ثمة مشاهد لم أوثقها على الورق، بل في شوارع دمشق ومعظم أريافها، مفارقها الساحرة، أمومة ليلها المخمور، وسواد مخابراتها الذي انتشر أخيراً كالسرطان على كل قماش الحنين، ولم تعد لنا مدينة تشبهنا، لقد طلع الوحش القابع في أقبية الشام، وحش على هيئة سلطة، تريد سحق كل شيء، تاريخ وأناس وأمكنة وكتب وقصائد وأصوات وعصافير ورياح وساحات. فقط .. فقط كي تبقى سُلطة! نحن صرنا دمشق، لكن على شاكلة شتات لا ينتهي.

■ ماذا عن تجربتك الشعرية، وحال الشعر السوري عموما قبل وبعد الثورة السورية؟
□ على المستوى الشخصي، أعتقد أنني كلما تقدمت في التجربة أصبحت الكتابة أكثر بطأ، ذلك أن الصورة التي أريدها ملكاً لي، أنجزها بهدوء وحرص شديدين، أريدها أن تكون أنا فقط دون تطعيمات من أحد، إيقاعي وهذياني وعباراتي التي تشبهني. وبالنسبة لحال الشعر السوري، فأنا لم أطلع على التجارب كلها حول ما كُتب بعد الثورة، ولكن ما قبلها، أعتقد أن المشهد كان يأخذ خصوصية على مستوى الأجيال، قريباً من جيلي في الكتابة الشعرية، هضمت نصوص الألفية الثالثة تحديداً بعد عام 2000 حتى مطلع عام 2010، أي عقد شعري، وظهرت أصوات شعرية مهمة من الشباب، لكن سرعان ما تلوث معظمها بأصوات الآخرين، قلة منهم مازالوا يعملون على نصوص تشبههم ولا تلتقي به خطوط من أزمنة وتجارب مضت. ما بعد الثورة، بقي النص رهن الانفعال والتشتت بين صورة «فيسبوكية» مستهلكة، وأخرى «شعرية» أي حقيقية لا نراها دائما، لأن الميديا اقتحمت التجارب بسرعة خيالية، وأصبح أمامنا كم كبير من «القصائد» في ما يخص سورية، وعدد قليل جداً من الشعراء.
■ تمردت قصيدتك على المنجز الشعري السوري، بل تبدو في حالة قطيعة تامة معه؟
□ أرجو أن تكون كذلك، لكن لم يكتب حول ما تقول ما يجعلني أجزم من حيث رأي القرّاء، بالمحصلة القطيعة التي تقصدها، هي تماماً بوصلتي حيث أقف وألتقط مشاهداتي، لعل التركيبة الذاتية لخجلي وارتباكي حين أرى «عيوناً ملونة لصبية حنونة تبتسم لي بحب». وحين أكتب بخجل، سيكون الشعر ربما صادقاً، لأن الشعر أنبل تجليات الحياء، أستغرب من نفسي كيف أنشر خجلي وصراخي هكذا على الملأ. القراءة هي المحرض الأجمل، والحاجة للكتابة هي المحرض الأقوى، بالنسبة لي، حين أقرأ تتوقف كتابتي تماماً، ألهو بعد القراءة لوقت طويل، ثم أنتظر لحظة النص، لحظة الكلمات الأولى، ربما لا أستطيع إنجاز شيء هكذا حتى تعود مرحلة القراءة مجدداً أجرّب. ربما هو تمرد كما تقول، لكنه على هيئة رجل ينتظر.
■ نصوصك حافلة بالأسئلة الحياتية، تصل أحيانا إلى طرحها بطريقة فيها بعض القساوة، هل تعيش تلك اللعنة شعرية في يومك المعاش؟
□ في دمشق، كنت أعيش أكثر مما أكتب، رغم أني على أبواب الثلاثين من العمر، ولدي ثلاثة كتب شعرية، لكني أعتقد أني كنت مشغولا بالبحث عن متعي وشغفي بالحياة، البحث عن نشوة المستحيل في تفاصيل الحياة، المرأة، الحب، الوداعات، أحياناً الموت، الرحيل، الأصدقاء، الكتب، الصحافة، وهذه الأخيرة أفقدتني الكثير مما كنت أحلم به من شعر وحياة وشغب، حين رأيت حياتي وأنا في قبرص كيف كنت في دمشق، تمنيت ألا أكون صحافياً، وبقيت أعمل في مهنتي التي أحب (تصليح الإلكترونيات)، ولكنني، فشلت حتى في بيع الورد، فشلت في التصوير والدراسة، فشلت في صب القوالب البلاستيكية، فشلت في بيع الثياب. هي مهن كثيرة عملت بها، بينما الكتاب دائما إلى جانبي، وبعد عشر سنوات من المحاولة، أعود لسريري ووحدتي وأسأل هل أنا شاعر؟ لا..لا، سأكون شاعراً وصحافياً وكاتباً يوماً ما، مازلت أقولها حتى اللحظة أنا أجرب وألهو بتفاصيل الحياة. من أين لي أن «أطرح أسئلة حياتية» في محاولاتي تلك؟ إنها مجرد شعر يشبهني، أرجو أن يصل إلى العالم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى