مي غصوب التي نتأخر عنها دوماً

حسن داوود

استعادت بيروت أمس الذكرى العاشرة لرحيل الكاتبة والفنانة مي غصوب في احتفال شهده متحف سرسق، ألقيت فيه كلمات وقرئت قصائد ونصوص وقدم فيلم وثائقي عن مسيرتها وأعمالها. هنا الكلمة التي ألقاها الروائي حسن داود في الاحتفال…
* * *
< ماشين على الطريق، كنا نتأخّر دائماً عن مي. تنتظرنا، أو تعاود انتظارها لنا إذ لا ينبغي أن تزيد المسافة التي تأخّرناها عن عشرين متراً. في ذلك اللقاء القصير تُبادلُنا كلمة أو جملة قبل أن تعود فتسبقنا من جديد. وأنا أفكّر أنها محتارة بين أن تتركنا نمشي على مهلنا أنا وحازم لأننا، أنا وهو، لم نلتق منذ سنة، أو أن تحثّنا على الإسراع لأننا سنحبّ ما سنشاهده في المعرض الذي نصحتني بزيارته.
كان جوزيف يصف ما تعدّه لزيارتنا لندن بأنه برنامجٌ مكثّف أكثر مما يجب. ذاك أننا نحبّ أن نكتفي بالقليل من لندن ما دام مزاجنا يختلف عن مزاج السائحين. فما نحبّذه هو أن نعيش في الخمسة عشر يوماً التي نقضيها هناك عيش المرتاحين، أي أن نبقى قاعدين حيث نحن، نسهر وندخّن، ونحكي كثيراً ونضحك كثيراً. مي، في ذلك أيضاً، تكون معنا، تطلق مثلنا تلك الضحكات القوية على النكات الآتية طازجة من لبنان. ولكن أيضاً تضحك لنا، لأن مَن حولها سعداء يضحكون.
تأخذنا في لندن إلى ما تحبّ أن نشاهده، كأنها تقول لنا لقد سهرتم أمس والآن إلى العمل. إلى المتحف البريطاني مثلاً، أو إلى معرض يقام في غاليري لا تبعد كثيراً عن دار الساقي، أو إلى السينما القديمة في نوتنغ هيل. يجب أن لا يمرّ الوقت هكذا من دون أن نفعل فيه شيئاً. في مرة، وقد وصلتُ إلى لندن في السادسة وجدت أنها دعت كثيرين إلى السهرة لتعرّفني بهم. بدأنا البرنامج قبل الوصول، مازحت حازم متذكّراً ما قاله جوزيف. البرنامج المكثّف كان في أجندتها وهي تعيش بحسبه. مع كل تعب البارحة كنت، حين أفيق في الصباح، وأنا هناك في بيتهم، أراها، في تلك الغرفة الخشب التي جعلتها محترفاً، تطعّج الحديد ناحتة منه تماثيل لنساء شرقيات يرقصن، أو لأجسام ووجوه أكثر ما أذكر منها نحتاً لأم كلثوم جسّدتها، حاضرةً تغني، بأقل القليل من التفاصيل.
وفي أحيان كنا ندسّ شيئاً يخصّنا في انهماكها بالعمل والكتابة، وذلك حين أطلعتها على نصّ طويل لندوة كنت قد كتبت كلمتها بالإنكليزية. لم تعجبها اللغة. قالت ما يشبه أن هذا إنكليزي مكتوب بصيغ أدبية عربية، ثم جلستْ إلى حاسوبها لتعيد الكتابة ساعة بعد ساعة بعد ساعة، إذ كان النص في ستّ عشرة صفحة كاملة. وأنا أروح أتساءل عما أستطيع أن أقدّمه لأجازي به ذلك الكرم، مفكّراً أن مودتي وامتناني لا يكفيان وحدهما.
ذاك لأنها كانت ترفق كرمها بودّ أكبر. ثم أنها، وهذا ما لا يُجارى أبداً، كانــت تعطــي وكأنها تعتذر. في ساعات الحاسوب تلك بدت كأنها تأخذ عني حتـــى حرجي مـــن جلوسها هكذا، لأجلي، كل هذا الوقت. لكن ما يجعل كل ذلك محتملاً هو ملازمة الضحك له. الضحك الذي هو أيضاً تعبير عن الامتنان بأننا هنا معاً. بأننا كلّنا هنا معاً، حازم ومي وجوزيف… هذه الكلّنا التي تكسّرت واستحالت إعادة تشكيلها من جديد.
أكثر ما نتذكّر من ميْ ضحكتها القوية الجاهزة أبداً (وقد ذكّرتني بها ضحكة هدى حين التقينا مؤخراً). أجيء بمغانم كثيرة من تلك الأيام العشرة أو الخمسة عشر التي قضيتها معهما، في بيتهما هي وحازم. للضحك نصيب وافر من هذه المغانم، أحمل حكاياته معي إلى بيروت فأقول لجوزيف إن حازم، المدّعي أمام ميْ الإقلاع عن التدخين كاد يحرق الحمام بسيجارته. أو أروي أن حازم سألني في الثانية عشرة ليلاً إن كنت أحبّ الكوكاكولا في وقت ما كان براد البيت خالياً منها.
كل ذلك ومي، العارفة، تتصنع أنها لا تعرف. ربما لحكمة عندها أن هذا القدر من التدخين المختلَس لا بأس به بمقابل الثلاث علب التي كان يدخّنها. أو ربما تقول بينها وبين نفسها: عليّ الآن أن أقوم، أن أبتعد قليلاً، لأتركه يدخّن السيجارة التي يحبّها.
حين كانت تنام عندنا في بيروت كان أول ما تبحث عنه حين تفيق هو الركوة. القهوة التي نبدأ باحتسائها هناك في المطبخ قبل أن نحملها لنجلس في الصالون الصغير أو لنقف بها على البلكون. القهوة كثيراً، القهوة دائماً. لكن من أين تحصلين على تلك الطاقة يا مي، كنا نسألها أنا وندى، هل يكفيها غذاءً مجرّد النظر إلى الخضار والفواكه التي أقاموا لها بسطات كثيرة تحت بيتنا. أنظر كم هي بديعة ألوانها، قالت لي. ميْ نقلت إليّ وعيها المرهف إلى ما كنت غير مبال تجاهه. بدت الألوان جميلة، بل بديعة، مصفوفة في صناديقها المتلاصقة، ورحت أفكر أنها نعمة منحها لي أولئك بائعو الفاكهة أولئك الذين لم أكن أتمنى من قبل إلا رحيلَهم ليصير الحيّ رائقاً.
ليس هيّناً أن تنتبه، بعد سنوات عيشكَ كلها، إلى أن هناك شيئاً جميلاً أمام ناظريك وأنت لا تراه. على أيّ حال ليس هذا وحده ما علمتني إياه مي. أشياء كثيرة أروح أعدّدها بيني وبين نفسي، ودائماً أقول، حين أتذكّر شيئاً جديداً، أنني لم أشكر مي كفاية لأني لم أكن أعرف أنها هكذا سريعاً ستغيب.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى