اليمن بيت العرب الأقدم: بعيوننا وعيونهم

منصف الوهايبي

صيف عام 1989 كانت زيارتي الأولى والوحيدة إلى اليمن. كنت مدعوّا للمشاركة في ملتقى الشعر العربي الفرنسي، وكتبت بعد عودتي إلى تونس مقالا وسَمْتُهُ بـ«اليمن أرض الجنّتين»، وأذكر أنّ الشاعر والأستاذ اليمني عبد العزيز المقالح، أعاد نشره في جريدة «23 سبتمبر»، وقال في تَقريظِهِ ما قال؛ ثمّ خصّني بقصيدة جميلة في كتابه «الأصدقاء».
ليس من مقاصدي أن أعود إلى تفاصيل هذه الرحلة، ولا إلى الشعر الذي ألقاه العرب والفرنسيّون، فهذا موضوع آخر؛ وإنّما إلى رمزيّة اليمن عميقة الغور، وكلّنا رجاء في أن يستعيد عافيته، ويعود إلى شعبه وأهله الأدنين: العرب..
من هذه الكوّة، أطلّ بعد ثمانية وعشرين عاما، على «بلاد اليمن الخضراء» كما كان يسمّيها قدماء العرب.. «بلاد العرب السعيدة» كما كان يسمّيها قدماء اليونان والرومان.. «بلاد الجنّتين» كما أحبّ أن أسمّيها، حيث نهضت حضارة سبأ، وقام سدّ مأرب يكسر حدّة الأمواه المتحدّرة من الجبال ويروّضها. أمّا الجنّتان فهما المكرّمتان في القرآن: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ـ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ـ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ـ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».
اليمن «بيت العرب الأقدم» كما يطيب لي اليوم، البيت الذي يقاربنا ويباعدنا؛ وقد فقدت الذاكرة شيئا من طزاجتها، وبهتتْ الصور الأولى التي خِطْنا أجفاننا عليها.. هو بيت معلّق في قمّة جبل.. حجارة سميكة.. باب وطئ.. شبّاك صغير.. بيت علّمنا الأشياء كلّها.. الشمس تطير بجناحين.. الأشجار تسير بنعلين.. الماء يجري في القيعان والواحات مُطوّقا بسلسلة مهيبة من الجبال.. الأزرق يتحلّل إلى أخضر فأبيض فأحمر فأصفر.. وأكاد أقطع بأنّ السماء والأرض كانتا رِتْقا في هذا الفضاء، وأنّ الفتق العظيم حدث هنا.. ولا أزال أسمع صوت الشاعر الفرنسي انطوان ريبو يصرخ، ونحن عائدون من مدينة «حجّة»، ويصيح بالسائق أن يتوقّف.. كانت الكاميرا جاهزة وبسرعة قفز إلى الأرض وتبعناه مشدوهين.. كان يريد أن يثبّت هذه اللحظةَ لحظةَ العدم الأوّل، القوس العجيبة ذات الألوان المتوالجة، وقد اعترفت بيني وبين نفسي بفتنة الأسطورة القديمة: كانت القوس ميثاقا بين السماء والأرض.. وكان ذلك بعد الطوفان العظيم.
في «حجّة» صعدنا إلى القلعة حيث سُجنَ الشاعر عبد العزيز المقالح سبع سنوات، قلعة معلّقة في قمّة جبل.. نظرت إلى المشهد من كلّ زاوية، إلى سلاسل الجبال إلى الجرف المفتوح على الأبديّة، إلى النسور المتوثّبة في السماء، إلى ثعبان ضخم ملتمّ مثل حرف الهاء، في قاع زنزانة، وتساءلت كيف كان الإمام خلال النصف الأوّل من القرن الماضي يزجّ فيها بمعارضيه.. وهو الذي جعل من «أرض الجنّتين» مقبرة مهملة، ربّما من تلك الفتحة المحفورة في السقف.. فتحة مثل فتحة الرحم.. وقلت بيني وبين نفسي: لابدّ دائما من صنعاء.. لابدّ من ولادة معكوسة.
للذاكرة أن تجري بريحها.. للخيال أن يلفّق الأشياء، وللوهم أن يوشّيها. أنظر الآن إلى ذلك البيت المعلّق، إلى ذلك الطفل (لا أدري ما فعلت به كلّ هذه السنوات) كان يُطلّ من نافذة صغيرة على الطريق التي حفرتها معجزة صينيّة في الصخر، وقلت أنت أيضا كنت هناك أيّها اليمنيّ المهاجر.. كنت تُطلّ من ذلك البيت، ولكن على القوافل المثقلة بالطيّبات، بخور وعطور وعاج وأحجار كريمة وريش نعام وجلود حيوانات، كان ذلك منذ ثلاثة آلاف سنة.
أمّا أصدقاؤنا من الفرنسيّين، فكانت لهم عيون أخرى يطلّون بها على اليمن، أكثرهم كان يرى بعين آرثور رامبو وبعضهم بعين الكاتب المعروف أندريه مالرو.. كان مالرو قد استأجر طائرة شراعيّة صغيرة، حلّقت به دقائق معدودة فوق صنعاء؛ ثمّ واصلت رحلتها إلى مأرب حيث بقايا من معابد بلقيس، وكاد يدفع حياته ثمنا، إذ نفد الوقود، في طريق العودة، واضطرّ قائد الطائرة إلى الاستعانة بقوّة الريح، وهبطت الطائرة في جيبوتي، كان ذلك عام 1935.
كانوا يُطلّون بعين المصوّر رينيه كليمن، رافق أوّل مبعوث فرنسي إلى اليمن.. كان ذلك عام 1937. والتقط كليمن أوّل فيلم للرحلة المضنية من الحديدة إلى صنعاء، ولم يفطن أحد إلى أنّه كن يقوم بالتصوير، إذ لا أحد كان يدري ما هو التصوير، ولكن عشرات الأسر اليمنيّة لا تزال كما قال لنا عبد العزيز المقالح، تحتفظ بنسخة من فيلم «اليمن37»؛ لكي تريه بين حين وآخر، لأبنائها حتّى يتذكّروا أنّ بلادهم كانت في النصف الأوّل من القرن الماضي، تموت ببطء، ولم يكن ينمو فيها سوى الخوف والتخلّف.
كانوا يُطلّون بعيني الطبيبة الفرنسيّة كلوديا فايان.. فقد أمضت ثلاثة أعوام في صنعاء، وسجّلت في كتابها «كنت طبيبة في اليمن» مشاهد الحزن والموت في زرائب معسكرات الإبادة التي كانت تُسمّى مشافيَ أو مستشفيات كما نقول في تونس.
صنعاء مدينة المعابد.. كلّ منزل معبد.. كلّ معبد مشهد جليل ينهض بطوابقه الخمسة أو الستّة، وحجارته الضخمة السميكة ونوافذه الصغيرة التي تلوح من بعيد كالرسوم.. صبْية يمرحون هنا أو هناك.. سيّدة في ملاءتها السوداء تدلف في صمت..والمدينة كلّها تسبح في نور الأسطورة، حتّى الجامع الكبير جامع صنعاء وهو من أقدم الجوامع التي بُنيت زمن النبي، ويقول اليمنيّون إنّ من صلّى فيه ركعتين خاض في الرحمة إلى يوم البعث.. أمّا من اعتكف في مؤخّرته فكأنّما اعتكف في ملكوت السماء السابعة، لكأنّ الزمن قد توقّف، أو أنّ المكان زمن تجمّد.. ومع ذلك فإنّ مظاهر الحضارة والتكنولوجيا الوافدة كانت متناثرة في كلّ مكان، مثل كلّ مدن العالم القديم التي كانت ذات يوم سرّة الأرض.
ولعلّ الأجمل في هذه المدينة، أنّها لا تسفر عن خفاياها إلاّ من بناياتها المرتفعة، ومن معلم أثريّ نصعد سلّمه الحجري، نكتشف الحدائق والبساتين الصغيرة المخبوءة وراء الحيطان، والطيور رمز الضيافة المرسومة في أعلى المنازل.. ربّما هي كناية عن الرحلة أو السفر، أو عن كلّ قادم من بعيد.. ومع ذلك تظلّ المدينة محتفظة بأسرارها الجليلة، تتحدّى أيّ نسيج يحوكه المؤرّخ أو عالم الآثار، وقد لا يحوزه سوى الشعراء: «كلّ حجر في صنعاء يذكر وجهي/ وكلّ زقاق فيها يؤدّي إلى قلبي» (عبد الكريم الرازحي).
طبيعة يتملّكُ فيها القادِمِينَ من بعيد، شعورٌ غامر بالسعادة.. سعداء لأنّنا لا نزال نحيا.. لأنّ لنا قلوبًا تنبض.. سعداء لأنّنا نرى ـ ولو بعين الذاكرة ـ كلّ هذه الأبّهات المتناثرة حيث يتآخى الجبل والوادي.. السفح والصحراء.. الحجر والسماء.. في أرض تكاد لا تنتمي إلى زمن بعينه، إنّما إلى كلّ الأزمنة. قلت يومها للمستعرب أنديه ميكال: «أليس من اللافت ألاّ يحتفي الشعر العربي قبل الإسلام بهذه الطبيعة، بهذه الخضرة اليمنيّة.. ويحتفي بها القرآن ولو في إشارات خاطفة؟» واسترسلنا في حديث ممتع عن الطبيعة والشعر، لم يقطعه علينا سوى مرافقنا اليمني وهو يشير بيده إلى الشرق:»هنا تقوم منشآت البترول» كان يقول ذلك بنخوة، وكأنّه يتحدّث عن مفتاح العصر.
عندما كان حسب الشيخ جعفر ينشد قصيدته «ماء السماء» في ليلة يمنيّة رحيمة:
«كتب المجنونُ للمجنونِ: دُمْ للزهر ظلّاَ / جُنّتِ الأمواهُ في سيْحونَ، والفلْكُ الجواري/ عُبّئتْ للفوزِ بالناجينَ كبريتًا ورملاَ/ ريشتي الطيرُ وطرسي الريحُ والساعي الصواري».
كان ذهني ينصرف إلى الأفول الذي لم يكن لأيّ شمس أن تخترقه.. منذ عصر ابن رشد، وقد نال منه الرعاع.. ومات منبوذا دون أن يكحّل عينيه برؤية الأندلس ثانية، وكان بكاء ابن عربي عليه شهادة على عصر الأفول الذي بدأ بموته، وبرحيله رحلت المعرفة إلى الغرب.
إلى مدننا «الطافية فوق بحر الحضارة العاصف» إلى الطوفان العظيم المقبل.. ونحن مشارقة، مغاربة نتدافع.. الرعد يهدر.. والبرق يرسم خطوطه المتكسّرة في سماء مُدْهامّةٍ.. وكان صوت من السفينة يستحثّنا على أن نسرع.. هي ذي تمطر.. وبعد قليل ستغرق الأرض.. بَيدَ أنّ الأبناء الضالّين.. الشعراء.. صمّموا وحدهم على البقاء.. ثمّة دائما عرْقٌ.. فلسطينيّ… أو شاميّ.. أو يمنيّ.. أو مغاربيّ ينبض.
لعلّ أجمل ما في السفر النسيان.. تتوقّف الذاكرة لحظة نطأ بلادا ما.. المرّةَ الأولى.. وتنفتح فيها ثغرة سريّة تتسرّب منها الأشياء والوجوه الجديدة.. ومع ذلك لا أجد أجمل من قصيدة كلود ميشيل كليني، أختتم به هذه الفسحة: «أيّتها الريح أرجئي هبوبك/ وليهدأ هذا الغبار الستار الوحشي الذي ينسجه الفتيان العراة/ وهم يتقدّمون إلى الضوء/ ينحنون ويمسكون بالسنابل حزمةً حزمةً/ يقطفون بضربة واحدة سريعة الجذوع/ وقشّها يفرّ بين أذرعهم الذهبيّة/ فيما تتجلّى بشرة الأرض».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى