حيل العشّاق في الأدب العربي

سلمى العطي

يزخر الشّعر الجاهلي بأبيات غزلية يعبّر فيها الشّاعر عن ولهه بالحبيبة صعبة المنال، فتحرسها القبيلة ويرقبها الواشي ويمنعها العرف من وصال حبيبها، الذي ”فضحها” بشعره فتسبّب في البين والفراق. ولذلك كانت الوقفة الطلليّة في القصيدة الجاهلية حيزا نصّيا ومجالا روحيا للشاعر، يبيّن فيه صبابته ويشكو حرمانه من وصال حبيبته. وبقيت صورة الحبيبة صعبة المنال راسخة في الأدب العربي منذ أن وصف امرؤ القيس سعيه للقاء ”بيضة الخدر” متجاوزا الحرّاس والواشين السّاعين لقتله قائلا:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا … علي حراصاً لو يسرون مقتلي
ولعلّ هذا ما جعل العشّاق يلجؤون للحيلة حتّى يحقّقوا الوصال المنشود. وفسّر ابن سيده الحيلة عند العرب قائلا هي ”الحِذْقُ وجَوْدَةُ النّظر والقدرةُ على دِقَّة التصرُّف”، وهذا ما يُبرّر حضورها في القصّ الشّعبي، إذ أنّها مصطلح أساسي في الحكايات والخرافات، ولذلك عندما قدّم فلاديمير بروب دراسته الشّهيرة للقصص الشّعبية بعنوان ”مورفولوجيا الحكاية” حضرت الحيلة باعتبارها ركنا أساسيا من أركان القصّ، ومؤثّرا مهمّا في سيرورة الأحداث. وعرف العرب الحيل والمحتالين فبعضهم يحتال بغية جمع المال كالبخلاء أو رغبة في الطعام كالطفيليين، بيد أنّ حيل العشّاق تكون ضرورة لا اختيارا خاصّة إذا كثرت العراقيل وترصدتهم الأعين. ولذلك كان اللّيل الزّمن المفضّل للهروب من أعين الرّقيب والواشي والعاذل. فعندما جاءت أمّ قيس بن ملوح لليلى العامريّة حتّى تقابل قيسا كي يعود إليه رشده، قالت لها: يا هذه، قد لحق ابني بسببك ما قد علمت، فلو صرت معي إليه، رجوت أن يثوب إليه، ويرجع عقله إذا عاينك؟ فقالت: أمّا نهارا فلا أقدر على ذلك، لأني لا آمن الحيّ على نفسي، ولكن أمضي معك ليلاً.” وكذلك التقى عمر بن أبي ربيعة بحبيبته في الليل، معلنا أنّ غياب القمر بداية زمن المغامرة قائلا ”وَغابَ قُمَيرٌ كُنتُ أَرجو غُيوبَهُ”، ممتعضا من قصر الليل ”فيالك من ليل تقاصر طوله”.. وكانت بوادر الصّبح نذيرا بنهاية اللقاء. وتُبيّن هذه القصيدة أنّ الحيلة ليست حكرا على الرجال دون النّساء، فلما تنبهت القبيلة وأشرق الصبح، خاف الشّاعر من الفضيحة، لكنّ أختيها قالتا لها إنّ الخطب يسير واقترحتا عليها أن يتنكّر بثيابهما حتّى يأمن عقاب القبيلة.
وإذا قرأنا كتب العشق كـ»مصارع العشّاق» لابن السّراج أو «طوق الحمامة في الألفة والألاف» لابن حزم الأندلسي أو «تزيين الأسواق في أخبار العشّاق» لداوود بن عمر الأنطاكي، ندرك أن المرأة العاشقة كثيرا ما تعترف بالعشق وتبادر بالوصل، وتعمد إلى الحيلة لبلوغ منالها. ومن بين هذه القصص، خبر ذكره جعفر بن السّراج في مصارع العشّاق، بعنوان علي بن صالح والقينة، يسرد فيه الرّاوي كلف جارية برجل يدعى علي بن صالح، لكنّها لم تُظهر ذلك للنّاس، إلى أن اجتمعا في مجلس واحد فكتبت له في منديل هذا البيت الشّعري:
الذي يَبْلُو بحُبّكَ يَا فَتىً، … يَرُدّكَ لي يَوْماً إلى أحسَنِ العَهدِ.
فقال عليّ ”فما هو إلاّ أن قرأت الشّعر حتى وجدت في قلبي من أمرها مثل النّار”. وهكذا استطاعت الجارية الظريفة أن تكشف عشقها دون تفطّن من حولها إليها.
وكثيرا ما تبدو العاشقة واثقة من نفسها ومتيّقنة من قدرتها على التّأثير في حبيبها حتّى دون حيلة، ولعلّ هذين البيتين الطريفين اللّذين ذُكرا في «مصارع العشّاق» يؤكّدان هذه الظاهرة، إذ تقول جارية شمت فيها البعض لهجر حبيبها لها:

قالوا لها هذا حَبيبُكِ مُعرِضاً…
فقالتْ ألا إعرَاضُهُ أيسَرُ الخَطبِ.
فَمَا هيَ إلاّ نَظْرَةٌ بِتَبَسُّمٍ …
فتَصْطكُّ رِجلاهُ وَيَسقطُ للجنبِ.

وإذا ما تعذّر هذا التّأثير يلجأ العاشق للسفير كي يصلح ما أفسد المودّة بينه وبين معشوقه، وقد ذكر ابن حزم الأندلسي مجموعة من الحيل في باب السّفير الّذي فضّل أن يكون من ذوات العكاكيز والتّسابيح حتّى لا يشك أحد في أمرهنّ وبيّن أن بعض العشّاق كان السّفير بينهم الحمامة المؤدّبة. وشدّد الأديب على أن يتّصف هذا السّفير بحفظ السرّ لأنّ بيده مصير العشّاق. فعليه أن يكون هو الآخر محتالا. وإذا تأمّلنا قصص العشّاق رأينا أنّ السّفير المحتال الدّاهية قادر على تحويل البين لقاء والفراق دنوّا. فمن أخبار العرب أنّ أحد العشّاق ويدعى إيّاس أحبّ ابنة عمّه صفوة حبّا شديدا أضناه وأسقمه. فجلبت له عائلته امرأة محنّكة فلمّا رأته ساورتها الشّكوك أنّ علّته العشق وعندما أرادت التّيقن ذكرت عرضا اسم صفوة فزفر إياس زفرة عميقة، فقالت له ”فوالله ما أظنّ الذي بك إلاّ هوى” وجعلها العاشق فيما بعد سفيرا بينهما لتحققّ الوصال المنشود. وهي حيلة اعتمدها أيضا ابن سينا، صاحب رسالة في العشق، ليكشف مرض أحد الفتيان، فطلب من خادم أن يذكر أمام السّقيم أحياء البلدة الّتي يقطن فيها بينما يراقب نبضه، إلى أن ذكر الخادم حيّ الفتاة الّتي يعشقها المريض، فتسارعت نبضات قلبه ثمّ ذكر عائلات الحيّ، إلى أن وصل إلى إحدى العائلات، فتسارعت نبضات قلب الفتى أكثر، واضطرب وحينها عرف ابن سينا أنّه عاشق لإحدى بنات هذه العائلة. وعلى الرّغم من طرافة القصص المتضمّنة للحيل فإنّ بعض الأدباء يعمدون أحيانا إلى إخفائها عن العوام، مثل ابن حزم الأندلسي الّذي صرّح بأنّه قد أخفى الكثير من الحيل الّتي عرفها بفضل نشأته ”في حجور النّساء” قائلا ”ولولا أني لم أقصد في رسالتي هذه كشف الحيل وذكر المكايد لأوردت مما صحّ عندي أشياء تُحير اللّبيب وتُدهش العاقل، أسبل الله علينا ستره وعلى جميع المسلمين بمنه، وكفانا.” ولئن سعى الكثير من الأدباء إلى إخفاء حيل العشّاق فإنّ القصّ فضحهم، ليكون الأدب هو أيضا حيلة عرفنا عبره طرائق اللّقاء بين عشّاق العرب، ووجلهم من الرّقابة، فلم تقدر الحيلة دائما على إنقاذهم..فلعلّ الحيلة في ترك الحيل..

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى