وجيه غالي الكاتب «المتأرجح» حطّم إبداعه

إيمان علي

لم تكن حياة الكاتب المصري وجيه غالي أقلّ صخباً من روايته الشهيرة «بيرة في نادي البلياردو» (صدرت بالإنكليزية عام 1964، وبالعربية في نسختين، الأولى بترجمة هناء نصير والثانية بترجمة إيمان مرسال وريم الريس)، وهذا ما نتلمسه من كتاب «يوميّات وجيه غالي… كاتب مصريّ من الستينات المتأرجحة» الصادر في جزءين عن الجامعة الأميركية في القاهرة.
يُغطي الجزء الأوّل الفترة من 1964 إلى 1966، والثاني الفترة من 1966 إلى 1968، وهو العام الذي شهد انتحار غالي في منفاه السياسي في لندن، وتحديداً في شقة صديقته ديانا أثيل. ترك غالي حينها وصية مكتوبة يطلب فيها من صديقته أن تُحرّر يوميّاته وتنشرها. إلاّ أن ديانا لم تقم بذلك، واكتفت بنشر مذكّراتها معه بعنوان «بعد الجنازة» (1986)، أي بعد عشرين عاماً على رحيله المفجع.
يتضمّن كتاب اليوميّات الذي حرّرته مي حوّاس؛ الحاصلة على دكتوراة في الأدب من جامعة لوفين وتدرّس الأدب الإنكليزي في جامعة الإسكندرية، حواراً مع ديانا أثيل تذكر فيه أسباب عدم نشرها يوميّات وجيه غالي طُوال تلك العقود. أما الجزء الثاني من اليوميّات فيحوي حواراً مع سمير بسطا، أحد أقرباء غالي. ويتذكّر فيه أطيافاً من طفولة الكاتب الراحل وحياته الأُسريّة في مصر.
في حوار أثيل مع ديبورا ستار (من جامعة كرونيل)، والتي تولّت جمع اليوميّات، نكتشف أن أثيل فقدت النسخ الأصلية لدى انتقالها من شقتها، ثم اكتشفت في 2011، وجودها في متعلقات قديمة اصطحبتها معها. ومن هنا جاء القرار بضرورة إعداد نسخ محرّرة من اليوميات ونشرها كاملة كما رغب وجيه غالي، خشية فقدانها مرّة أخرى. في كانون الثاني (يناير) 2014، كانت ديبورا ستار قد أتمّت جمع اليوميّات وإيداعها في أرشيف ضخم ومثير لوجيه غالي في جامعة كرونيل، وكتاب حوّاس هو، أخيراً، تنقيح لأكثر من 700 صفحة من اليوميّات في نسخة مطبوعة.
تُغطي اليوميّات السنوات الأربع الأخيرة في حياة وجيه غالي، وتقدّم لمحات مثيرة من ستينات لندن المتأرجحة والساحقة. «تناول حيّ لحياة كاتب مميّز، وعقود نابضة بالحياة»؛ كما جاء على الغلاف الخلفي للكتاب. ترك غالي وراءه، ستة كرّاسات، ظلّت لعقود عدة غير متاحة للعامة. يعتمد الجزء الأول من كتاب مي حوّاس على كراسين منها، تغطيان الفترة من 1964 إلى 1966، ومن عناوينها: «نحو الجنون»، «كل قراراتي»، «لندن»، «بالأمس قضيت ليلة هادئة في البيت». وتحكي يوميات تلك الفترة عن الوظيفة التي حصل عليها غالي في الجيش البريطاني، من دون أن يتضح كيف حدث ذلك، ولماذا ترك المدينة التي كان يقيم فيها غرب ألمانيا، بلا الحصول على «المواطنة الألمانية».
يكتب في اليوميات، أنه لم ينفك يتخلّص من «عُقدة» اللاجئ التي ظلّت تحاصره وتدفعه الى الجنون. تتعقّب اليوميات بعد ذلك، إحباطات غالي العاطفية وتلاعبه بمشاعر السيدات. في بقية أجزاء اليوميّات، نتابع انتقال غالي إلى لندن، وهي الفترة التي ارتفعت فيها قليلاً معنوياته.
تأثّر غالي كثيراً بالستينات المتأرجحة، ويمكن القول إن «روحاً متأرجحة» كانت تحرّك صاحب «بيرة في نادي البلياردو» في قراراته وانعطافات مسيرة حياته القصيرة.
انخرط غالي في لندن في حركات سياسية، رافضاً حملة نزع السلاح النووي، وحتى اليسار الراديكالي، وواصل إدمانه الكحول والقمار والمواعدات الغرامية. لفترة طويلة؛ ظلّ اسم ووجود وجيه غالي غامضاً ومجهولاً في مصر، لا صور ولا معلومات متاحة. شاب ثلاثيني ذهب إلى ألمانيا عام 1958 ليعيش في مدينة صناعية صغيرة، معدماً ووحيداً، وهناك كتب روايته الوحيدة. الرواية لم تقدّم تجربة ألمانيا التي قضى فيها غالي أربع سنوات قبل أن تُساعده ديانا أثيل على نشر عمله الأدبي ومن ثمّ الإقامة في لندن لينتحر في بيتها بعد ذلك. لكنّ ألمانيا حاضرة أساساً في مسودّتين تركهما غالي لمشروع رواية، كان يعمل عليها في الشهور السابقة لانتحاره، وهو يشير إليها في يومياته بـ «رواية أشيل». إحدى المسودّتين عبارة عن 37 صفحة والأخرى 32 صفحة، وكلتاهما تحتوي على تصحيحات؛ آخرها في تشرين الأول (أكتوبر)67. تظهر مدينة «ريدت»؛ غرب ألمانيا، في الجزء الأول من اليوميّات. ويمدّنا هذا الجزء برؤى فريدة وانطباعات مهاجر مصري إلى ألمانيا ما بعد الحرب، ويسلط الضوء على كتابة غالي وشخصيته عندما كان في قمة إحباطه واكتئابه. وفي الخلفيّة؛ نجد ما سوف يُصبح في العقود اللاحقة حدثاً مهماً وعلامة بارزة في تاريخ ألمانيا، لذا يمكن اعتبار اليوميّات سجلاً تاريخياً، عما عُرف مثلا ب ـ»محاكمات تريبلينكا» وانتصارات الحزب الوطني الديموقراطي في ألمانيا، وصعود حزب العمّال في برلين.
بعد ترجمة «بيرة في نادي البلياردو» إلى العربية؛ عُرف وجيه غالي كأوّل مصري يكتب رواية بالإنكليزية. في تقديمها ترجمة رواية وجيه غالي، كتبت إيمان مرسال معلومات ترجيحيّة تقول: «على رغم صعوبة تحديد تاريخ ميلاد غالي بدقّة، لأنه لم يكن صادقاً في الاعتراف به، إلاّ أنه يمكن القول إنه ولد في الإسكندرية في نهاية العشرينات من القرن العشرين. درس في «فيكتوريا كولدج» في الفترة من 1944 إلى 1947. وفي يوميّاته يذكر يارة أحد أصدقائه (الممثل المصري أحمد رمزي) الى لندن في أيلول (سبتمبر) 67، مشيراً إلى صداقتهما منذ الطفولة وتزاملهما في الدراسة».
ويتحدث غالي ايضاً في يومياته عن طفولته، التي قضاها متنقلاً بين بيوت العائلة والأقارب، ويأتي كثيراً على ذكر عمته «كيتي». وإذا قرأنا كتاب ديانا أثيل عن علاقتها بغالي، نجد أنه لا يكشف الكثير عنه. فقد تعمّدت تجهيله وتغيير اسمه واسم عائلته في مذكّراتها. وركّزت أكثر على فترة الشباب في حياته. سافر وجيه غالي إلى باريس لدراسة الطب في السوربون وغادرها إلى لندن في عام 1953، ثم رحل إلى مصر خوفاً من السجن بعدما ضرب ضابط شرطة إنكليزياً أثناء تظاهرة ضد العدوان الثلاثي عام 1956.
في مصر؛ يتورّط غالي في نشاط شيوعي فترفض الحكومة تجديد جواز سفره، يهرب إلى ألمانيا التي تمنحه الإقامة عام 1958 حتى يغادرها إلى لندن. وفي 26 كانون الأول (ديسمبر) 1968 يبتلع غالي علبة حبوب منوّمة؛ ويُنقل إلى المستشفى، ثم يعاد إلى شقة صديقته ليموت هناك في 5 كانون الأول (يناير) 1969. اليوميّات، تقترب من صورة أكثر وضوحاً لغالي، ولطبيعة حياته في المنفى، وتُساعد في تصحيح بعض المعلومات الخاطئة عنه. يمكن اعتبار هذه اليوميات وثيقة اعتراف مهمة نتتبّع ونتأمّل فيها حالات العجز عن الكتابة واغتراب كاتب عاش طفولته فاقد البيت، وشبابه فاقد الوطن.
قد تكون هذه اليوميّات أيضاً أقرب الى سجل لتعليقاته عن قراءاته وعلاقته بالسينما وتصوّراته عن الآخرين الذين مثّلوا عالمه في لندن ومنهم ديانا أثيل نفسها. وعن هذه الشخصية الإنسانية المؤثرة في حياته، تكتب مرسال في مقدمة «بيرة في نادي البلياردو»: «لم يُحبّها؛ وإن كانت وفّرت له أمومة كان لا يستطيع النجاة- لفترة – بغيرها».
تفسّر اليوميّات أيضاً، مُلابسات زيارته الى إسرائيل في 1967، ومقالاته عن هذه التجربة التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز». وأكثر من ذلك، يمكن اعتبار هذه اليوميات بمثابة «دليل على تدمير غالي لذاته في شكل منتظم ولسنوات عدة قبل أن يُقرّر أن يُنهي آلامه باختيار التخلّص منها». يتعقّب الجزء الأوّل من اليوميات، حياة صاحب الرواية اللاذعة، ولمحات ممّا يتذكّره من طفولته في الإسكندرية والقاهرة؛ راسماً في نوستالجيا «حلوة ومُرّة»، أو لنقل صورة لعصر مُنصرم لمصر.
تقترب اليوميّات عبر محاورات ومقابلات أجرتها مي حواس- محررة الكتاب مع بعض أفراد عائلته- من ملامح وجيه كفاجر، متسوّل وعالة، الذي يُعاني من هوس اكتئابي. لكنه كان في الوقت نفسه كاتباً غير عادي، مثلما كان شخصاً مُسالماً. تنقل اليوميّات روحه وأسلوبه كـ «معلّق سياسي محنّك». وأخيراً؛ يتميّز الجزء الأوّل من اليوميات، بلمحاته «الصحافية» التي تُغطي ببراعة شخصية أدبية محبّبة، وفي الوقت نفسه غامضة، ملغزة ومبهمة، كشخصية وجيه غالي.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى