بومدين جلالي… كتابات من سهوب الجزائر إلى سهول فلسطين

هادي حسن حمودي

بعد افتتاح جامعة وهران ـ السانية بثلاث سنوات أو أربع سنوات، خطوت فيها أولى خطواتي التي استمرت إحدى عشرة دقيقة. كل عام يمر كدقيقة واحدة.
في السنة الأولى كان عدد الطلاب والطالبات قليلا، ثم تزايدت الأعداد، لأن وهران عاصمة الغرب الجزائري، وتصب فيها ثماني ولايات على الأقل، حتى اكتظ بهم مدرج الإبراهيمي الواسع الجميل. اتخذت طريقة التواصل البصري في التدريس، وذلك لسببين:
الأول: لا أؤمن بطريقة استعلاء منصة الأستذة وفتح كتاب يملي منه المحاضر وطلابه يكتبون. إذ أعتبر هذه الطريقة دالة على ضعف الأستاذ أو المحاضر، حتى إن توقف ليشرح شيئا هنا وشيئا هناك. فما من أجل التلقين وجدت الجامعات. كما إن هذه الطريقة تضع حاجزا بين الأستاذ والطلاب.
الثاني: إن الإملاء يمنع التواصل البصري بيني وبينهم. فالتواصل البصري مهم جدا للتأثير والتأثر. وهو السبيل الأمثل لمعرفتهم ومشاعرهم. لقد أتاح لي هذا التواصل البصري أن أقرأ في دارات أعينهم. عشق بلادهم الممتزج بهويتها الثقافية التي أساسها اللغة العربية. فكان هذا العشق لوطنهم ولغتهم جسر الحب بيني وبينهم.
قبل وهران مارست التدريس، وبعدها مارسته أيضا، وكان الاحترام المتبادل سيد ميادين العمل. ولكن في وهران، وطيلة تلك الدقائق الإحدى عشرة، كان ثمة شيء آخر. فقد كان مدرج الإبراهيمي مشحونا بأمواج الحب، حب متبادل. وكثيرا ما كنت أترك منصة الأستذة لأجلس بينهم. لهذا كله حين كنت أسمع شكوى من بعض زملاء العمل من شيء هنا أو شيء هناك، على عادة العرب في حب الشكوى، كنت أقول لهم: هذا جيل قَلّ نظيره ونَدَرَ مَثيلُه. وتأكد لي ذلك لاحقا وإلى اليوم، فكلما مرت الأيام تألقوا أكثر فأكثر، وتجددت بيننا عرى التواصل وتعمقت مشاعر المحبة.

(2)

في السنوات الأولى كان الطلاب والطالبات من جيل الثورة، ومن بعد ذلك جاء جيل الاستقلال، وبمضي السنين ظهرت على بعض أبناء هذا الجيل الثاني ظواهر صراع التيارات السياسية والفكرية، لأسباب شتى. غير أن هذا لم يكسر أمواج الحب، حتى إذا غادرت الجزائر، تحول التواصل البصري إلى تواصل كتابي وهاتفي يجتاز الآفاق.
في إحدى الدقائق الوهرانية كان بومدين جلالي من الطلاب الجادين، من جيل ما قبل انتصار الثورة الجزائرية. وهو اليوم أستاذ في جامعة مولاي الطاهر في ولاية سعيدة، له عديد المؤلفات والبحوث والقصائد، ملتزما بما تربى عليه من قيم الثورة بإطاريها العربي والمسلم، وألاحظ أن بحوثه ودراساته وقصائده متنوعة الموضوعات، تتجاوز اختصاصه الجامعي في الأدب والنقد، سأعرض لشيء وجيز منها عسى أن ينتفع به من شاء.

(3)

لفت نظري بحثه المعنون «نجيب محفوظ بين المحاكاة والإبداع» الذي ينطلق من حقيقة أن الثقافة العربية لم تكن في يوم من الأيام منغلقة على نفسها وإنما كانت متفتحة، تتبادل مع غيرها من الثقافات الكثير من العناصر، كما أنها لم تكتف بالتبادل الذي حدث بسبب الجوار والتجارة والحرب والرحلات والإعلام والترجمة وغير ذلك، بل تفاعلت معه حسب الخصوصيات الزمانية المكانية والحاجات الروحية للعرب.
وتأسيسا على هذا يعرض لجملة حقائق صنعت نجيب محفوظ. منها ما يسميه بالذكاء العجيب، والوعي بالملكة الإبداعية، وعدم الاحتفال بالنقد، وبهذا الصدد يقول (يبدو أن نجيب محفوظ كانت له ثقة مطلقة في ملكته الفنية وقناعة تامة بمشروعه الإبداعي، لذا لم يحفل كثيرا بالكلام على الكلام طوال مساره الأدبي). ثم يبحث التجريب الذي قامت عليه شهرة محفوظ وأبرز ذلك، من وجهة نظره، التجريب الاجتماعي والتجريب التاريخي والتجريب النفسي والرمزي، وغير ذلك. على أنه يحلل روايات نجيب محفوظ فيضعها في خانة العلمانية المحايدة، ويلتفت إلى حقيقة محفوظية يستجليها من كتبه، أنه لم يكن نجيب محفوظ منفعلا ولا من أصحاب ردود الأفعال حين الأزمات، ويصفه بأنه كان هادئا هدوءا متأملا فيه شيء من التصوف الانغلاقي على الذات قائلا: «بحثت له عن موقف واضح وصريح بالمساندة أو التنديد في كبريات الأحداث التي هزت زمانه، كالحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والتفجيرات النووية وأزمة خليج الخنازير والحرب العراقية الإيرانية وما يجري هذا المجرى، فلم أجد ما يشفي الغليل، كما بحثت أيضا عن موقف متميز له في أكبر القضايا العربية كالمقاومة الفلسطينية وثورة الجزائر ونكسة 1967 وما شابه هذا، فلم أجد أيضا تصريحات صارخة تقطع قول كل خطيب، كما بحثت كذلك عن موقف له في القضايا المصرية المصيرية كسقوط الملكية وقيام ثورة 1952 وما إلى ذلك، فلم أجد كذلك شيئا كثيرا. والاستثناء الوحيد الذي يلفت النظر هو موقف التأييد الذي وقفه لمعاهدة كامب ديفيد». ويعلل ذلك بأنه نابع من علاقته المسالمة بنظام بلاده ومن ميله للتطبيع مع (إسرائيل).

(4)

وفي دراسته المستوعبة «النقد الأدبي المقارن في الوطن العربي» انطلق فيه من منطلقين تأسيسيين: الأول المقارنة التاريخية النقدية لأهم الدراسات النقدية المقارنة المنجزة في العالم العربي عموما وفي الجزائر خصوصا.
والثاني: المقارنة النصية النقدية لبعض النصوص العربية الجزائرية، بما في كل منها من ماهية وإمكانات معرفية و منهجية.
وقد دعته هاتان المقاربتان لإشكالية البحث إلى اعتماد منهج يصفه بأنه تكاملي يعتمد على مجموعة من المفاهيم النقدية المتداخلة تهدف إلى إبراز الحقيقة الموضوعية كما هي، مقاربا للمدارس العالمية في الأدب المقارن، والنصوص التراثية وأثرها بالأدب المقارن الحديث، ثم الاهتمام بالمنجز النقدي المقارن في الجزائر.
وانطلاقا من هذه العوامل وغيرها، حاول الإجابة على جملة تساؤلات يلخصها بالقول: إلى أي حد استطاع هذا النقد أن يمارس حضوره المعرفي ويطور أدواته ووسائله وأساليبه؟ وهل يمكن استثمار خصوصيات منهجية أو فكرية معينة تجعله فاعلا وقابلا للتداول والنقاش؟ وما هي الأسئلة النقدية المقارنة التي تشغل بال الناقد العربي المقارن عموما والناقد العربي الجزائري المقارن خصوصا، وما هي الطبيعة المنهجية للإجابة التي يطرحها حتى الآن؟ ثم يشرح منهجه في إعداده لهذه الرسالة الجامعية التي نال بها الدكتوراه.

(5)

وفي تأليفه لكتابه «عرش أولاد سيدي الناصر بن عبد الرحمن» وهي قبيلة جزائرية شريفة تقع في السهوب الغربية الملامسة لجبال الأطلس الصحراوي، يعتمد ما كتبه بعض المؤلفين باللغة العربية يذكر منهم (الشيخ الإمام الحاج محمد المشراوي والأستاذ الباحث الناصر مجاهد والأستاذ بلخير جلالي والأستاذ عبد القادر نورين من المعاصرين والعلامة أحمد بن محمد بن أبي القاسم العشماوي والعلامة أبو عبد الله التونسي الإسكندري من القدماء وغيرهم) وعلى ما كتبه الباحثون الفرنسيون، وعلى ما قاله الشعراء. ولم يكتف بذلك بل يقول إنه استمع إلى ما حكاه رواة الأخبار من كبار القوم. ويقرر أن عدد الذين استمع إليهم قد تجاوز المئة (فمنهم من استمعت إليه مرة واحدة، ومنهم من استمعت إليه مرتين أو ثلاث مرات ومنهم من استمعت إليهم بغير حساب. ومن ضمن هؤلاء الرواة يوجد رجال ونساء، منهم من ولد في نهاية القرن التاسع عـشر، ومنهم من ولد في العقود الأولى من القرن العشرين. وهم من كل الفئات: المتعلم والأمّي، والغني والفقير، والمشهور والعادي، والمواطن البسيط المقيم في العرش والنازح، والممثل لقيم الاستقامة وغير الممثل لها وهكذا. وأخيرا المعايشة الشخصية والمشاهدة العينية) إذ قضى بعض طفولته في البادية بين قومه: «وكذلك كان الحال بالنسبة لمعظم عطلي وأنا شاب ثم وأنا كهل، وحضرت جل مناسباتهم، وهو ما جعلني أتغلغل إلى بعض أعماق ثقافاتهم وخصوصيتهم) حسب قوله. وكأنه يريد إعادة سيرة الرواة الأوائل الذين كانوا يهاجرون من البصرة والكوفة لجمع اللغة وروايتها.
غير أن الكتاب ليس عن لهجة القوم فحسب، بل عن الحياة الاجتماعية لأولاد الناصر بن عبد الرحمن، حيث نقل فيه كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم وما لديهم من تراث في العلاج الطبي والظروف البيئية وغيرها. منبها إلى أن «المنطقة الواقعة بين جبل «كسال» بمحاذاة مدينة البيّض وجبل «عمور» بمحاذاة مدينة آفلو، بما فيها من أعراش بضمنها عرش أولاد سيدي الناصر، ما تزال بكرا لم تدرس دراسة أكاديمية حرة وجادة وكبيرة. وأن تراثها الممثل لخصوصيتها هو في طريق الضياع».

(6)

وعلى الرغم من أن معظم اشتغالاته كانت على الثقافة الجزائرية، فإنه لم ينس فلسطين، ولاحظت أنه يريد إعادتها إلى الصف الأول من صفوف الاهتمام العربي والمسلم، فيكتب بحرقة عن إهمالها، ناثرا مقطوعة طويلة أقتطع منها سطورا، وهي بعنوان:

فلسطين لا تسامحينا
*
كنا ننتسب إلى مشرق الشمس وضحاها، وطلعة البدر إذا تلاها، وتاريخ الأرض ومن بالإعجاز بناها، لكننا تناسينا ثم نسينا، فما عاد شيء من ذلك يعنينا، فيا فلسطين لا تسامحينا.*
كان شعرنا مجدا للسيف في يوم الحيف، وكان لساننا حياة في الحياة وحياة بعد الحياة، وكانت ألبابنا نجوما بأي منها يقتدي الوجود سيهتدي إلى المقصود وما بعد المقصود. واليوم ذل الشعر وبكأ اللسان وتوارى اللب في قبر مقبور أو جحر مهجور أو حيز محظور، فما عاد يستفزنا ما يستفز الناس ولا يقنعنا ما يقنع الناس ولا يحركنا ككل الناس ما يفعله فيك الصهاينة على مرأى من الناس وغير الناس . هكذا مات كل شيء فينا، فيا فلسطين لا تسامحينا.

(7)

وله نصوص أدبية على غرار أدباء الكتاب القدماء، ومنها نص «وردة القلب»، وهو نص طويل يقول في جانب منه، واصفا الجزائر: (ألوانها تهمس في الدياجي فتضيء، وتحوّل ما ساء إلى ما لا يسيء.. وكنت في قلبه قبل الزمن، وفي الزمن، وبعد الزمن، فيها من لون الرمل إذا تجلى، ولون السهل إذا تحلى، فيها لحن الجبل ووشم الطلل) فيقدم لوحة فنية لمشاعره تجاه وطنه، وتعلقه بميراثه الثقافي.
وللشعر عند بومدين جلالي مجال رحيب، فتراه ينظم المقطوعة والقصيدة والملحمة، ففي قصيدته الطويلة «عين المهبولة» التي هي رمز لمدينة البيّض مدينة الباحث، وتقع في الهضاب العليا الغربية للجزائر يسرد شيئا من تاريخ بلده، هنا مطلعها:

ياَ عَيْنُ طِبْتِ.. وَطَابَ فِيكِ الخَاطِرُ
لَمَـا أرَاكِ أُحِــــسُ ّأَنيِ شَــــــــاعِــرُ
أَحَبيبِةَ الأَشْوَاقِ مَــــا هَــذَا الشَذَى؟!
هَلْ أَنْتِ سِـرّ أَمْ سُــرُور سَاحِـــــرُ؟!
يـَـا عَيْنُ.. هَلْ مَهْبُـــولَة أَنْتِ الَتــيِ
سَالَتْ جَمَالاً، وَالزَمَـانُ يُكَابـِــرُ؟!
حَـقًــا، أَأَنْتِ جَمـِــــيلَـةُ مَجِـــــنُونَـة،
أَمْ أَخْطَـأَ الأَبْنَــاءُ وَالِمُتَآمِــــــرُ؟!
مَــاذَا أَقُـــولُ لِحُبِكِ السَـــارِي لَظـىً،
وَاللَيْلُ ـ مِنْ أَرْقَى وَعِشْقِي- حَائِرُ؟!

(8)

أكرر ما قلته إن بحوث ذلك الجيل الوهراني وغزارة إنتاجه الثقافي، الذي لا أتردد في وصفه بأنه جيل قَلّ نَظيرُه ونَدرَ مَثيلُه، مؤهّل، سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، ليكون موضوع دراسات جامعية وأطروحات لها نفع كبير لتطوير الرؤية المنهجية لحاجات العرب الثقافية في عصرهم الحديث.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى