«مكتبة سعدالله ونوس»… أو فصل من حرب الذاكرة السورية

رشا الأمير

مات سعد الله ونوس في النصف من أيار/مايو 1997. وسط هذا الزحام الكوني الذي لا متّسع فيه للتوقف عند مصائر الملايين من البشر، كان الأرجح أن يجتمع في أيار رهط من مُحبّي ونوس، في بيروت أو باريس، أو لربما دمشق نفسها، وأن يُحيوا، بالتي هي أحسن، وبما بقي بعد من كلام يصلح للرثاء، الذكرى العشرين على وفاة رجل حقّه أن يختلف الناس فيه، وفي محله، اختلافهم بمن كان، مثله، بعضًا من المشهد العام. لم يحتج سعد الله ونوس أن ينتظر حتّى المنتصف من أيار لِتُحيا ذِكراه ويُحيا ذكره… والعَجَلَةُ لَيْسَت دائمًا من الشيطان… بل البشر، أحيانًا، منافسون أكفّاء للشيطان في كل ما ينسب إليه من عَمَل ومن تَرْك.
لأكثر من عام خلا ونصف عام، نقلت شاحنة تحمل شعار إحدى شركات النقل والبريد السريع العالميّة من دمشق إلى بيروت، في عداد ما نقلت من أثاث دبلوماسي، ومن موادَ أوّليةٍ لزومَ محلات الحلويات والمطاعم الشامية التي باتت جزءًا أصيلاً مِن عناوين الأكْل في بيروت، بضع عشرات من الصناديق الكرتونية تحتوي على آلاف من الكتب المستعملة. على أن صفة الاستعمال، في هذا المقام، لا تفيد الانتقاص من قيمة الكتب تلك، بل على العكس من ذلك، تزيدها قيمة وجلالاً على جلال. فالكتب المهاجرة على متن تلك الشاحنة ليست بضاعة انتفى سوقها في بلد تأكله الحرب فرأى صاحبها أن يعرضها للبيع في مكان آخر، بل هي جماع مكتبتين شخصيّتين اثنتين قرر مَنْ بيدهم الحل والربط في أمرهما إهداءهما إلى إحدى المؤسسات الجامعيّة البيروتيّة.
أما المكتبة الأولى فتخصّ طبيبًا و شاعرًا سوريًا حلبيًّا هو فؤاد فؤاد ، انتقل للسكن في بيروت وللعمل فيها منذ سنوات؛ (ومن ثم فهو صاحب المكتبة على معنى حق الرقبة المطلق عليها، أي حق التصرف بها بيعًا وهبة وغيرهما). وأما المكتبة الثانية فبعض من التركة التي تركها سعد الله ونوس لورثته. وإذ دخلت هذه المكتبة، نظريًا، في ملك أولئك الورثة وبات لهم عليها حق رقبة لا ينازعهم فيه أحد، فإن ما حفظ قيمة هذه المكتبة، بوصفها كيانًا قائمًا بنفسه، وبصرف النظر عما تضمّه من كتب، هو نسبتها إلى مالكها السابق ــ إلى سعد الله ونوس. وبهذا المعنى، فلا سعد الله ونوس مات عن مكتبته كلّ الموت، ولا ورثته ورثوا مكتبته كل الوراثة، وبهذا المعنى الرمزي أيضًا أقام ورثته، بلغة الفقه والقانون، أصحاب حق انتفاع… وهنا مربط الأمر بل معقِده…
في السادس عشر من شباط/فبراير 2017 استقبل أوديتوريوم زها حديد الواقع في مبنى عصام فارس في الجامعة الأمريكية في بيروت ندوة أريد منها إشهارُ قرارِ ورثة سعد الله ونوس، بوصفهم أصحاب الحق القانوني في التصرف في ما تركه من مكتبة، أن يهبوا هذه «المكتبة» إلى تلك الجامعة، وهنا وَقَعَت الواقعة، وانفتح قمقم سوري، في عِداد قَماقِمَ سوريَّةٍ أخرى منها ما انفتح خلال السنوات الماضية، ومنها ما ينتظر، وخرجت من أسره أشباح، وفُكَّت من ألسنة هذه الأشباح عقدها. ولا غَرْوَ أن يكون كذلك ولا هو بالأمر العَجَب؛ فـ«مكتبة سعدالله ونوس»، مِنْ يَوْمِ أنْ جَهَّلَ المَوْتُ صاحِبَها، وحرمه من حَقّ التوقيع بالأصالة عن نفسه، باتت في محل «نائب الفاعل» من سعدالله ونوس نفسه ــ بل نائب الناطق عنه… ولأنه كذلك، لأنَّ التمييز بين الرجل والمكتبة ارتفع من أصله مع رحيل الرجل، سارعت فائزة شاويش ونّوس أرملته ، في الكلمة التي ألقتها باسم العائلة، خلال ندوة الإشهار، إلى إبرازِ وكالتها (المعنويّة) عن زوجها الراحل فَحَدَّثَت الحاضرينَ بأنَّه كان يتساءل، قبل وفاته، عمّا سيحل بمكتبته بعد رحيله، وبأنها، كانت تخفّف عنه مؤكّدة له بأن: «لا تقلق. سأهتم بمكتبتك. وأعدك أنها ستكون في مكان جميل»، وأن تحمل إهداء المكتبة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت على محمل البر بما قطعت على نفسها من وَعْد، فتضيف :«اليوم، في عيد ميلاده الخامس والسبعين، أقدم له هديةً ثمينة، مكانًا جميلاً لمكتبته».
لا يختلف اثنان على أن الجامعة الأمريكية هي من أجمل ما عفت عنه يد العقاريين المهوسين بالإعمار وإعادة الأعمار، ولا يختلف اثنان على أنّ هذه الجامعة صرح علميّ لا يكاد أن يكون له منافس في منطقة الشرق الأوسط، ولكن لا يختلف اثنان أيضًا على أنَّ الحُجَّتين الجَماليَّة والعِلْمِيَّة ليستا من الإفحامِ بِمكانٍ يُسْقَطُ معه في يد مَنْ قد يرون في إهداء عائلة ونوس مكتبة راحِلها إلى الجامعة الأمريكية إهداء للراحِلِ نفسه إلى هذه الجامعة ــ بل قل انْشقاقًا بالوكالة، ذا مفعول رجعي، لمثقف علوي!
وهذا ما كانَ، وبطرفة عين رُبِطَ النزاعُ بين المُدافعين عن قرار العائلة إهداء المكتبة إلى الجامعة الأمريكية والعائبين على العائلة قرارها هذا وصولاً إلى اتهامها بـ«تَعْفيش» هذه المكتبة، (والتَّعْفيشُ في الاستعمال السوري الجاري اسم للنهْب الذي يلي أعمالاً عسكريّة تنتهي بالسيطرة على موضع ما)، وإلى اتهامها بـ«اغتيال» هذه المكتبة وبعقد «صفقة مشبوهة» على مذكرات سعدالله ونوس غير المنشورة وهكذا دواليك…
عاجلاً أم آجلاً لن يلبث السجال الذي مداره على «مكتبة سعدالله ونوس» أن يخفت، على أن الأمر المؤكّد أن هذا السجال سوف يبقى محطة لن يمكن المرور دونها في سياق سجال أعمّ، عنوانه «الذاكرة السورية»، يبدو وكأن السوريين والسوريات لا يزالون يترددون في خوضه، وفي تفصيل عناوينه، وفي مصارحة بعضهم بعضًا بأنَّ تزاحم السَّرْديات بينهم ليس بالبند الخلافي في طبيعته فقط، ولكنه أيضًا من تلك البنود الخلافيّة التي لا تنفع معها «الاستعانة بالأصدقاء» ــ من دون أن يعني ذلك، بالطبع، أنَّ السوريين ليسوا مدعوين، اليوم قبل الغد، إلى الوقوف على تجارب البلدان والمجتمعات التي سبقتهم إلى «الحرب الأهلية».
قد يؤخذ على ما سبق ما يعتريه من تعميم، والمأخذ صحيح مقدار ما أنَّ الداعِيَةَ إليه عفويةٌ وأشْبَهُ برد الفعل المُسْتَعْجَل على ما غاب، أقلّه حتى الآن، عن السجال الذي افتتحه إهداء «مكتبة سعدالله ونوس» إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وأعني بذلك علاقة عمّال الثقافة السوريين، الأعلام منهم والمغمورون، في «النظام».
كما في بلدان أخرى غير سوريا، وفي مراحل تاريخية لا يكاد يخبو ذكرها حتى يتّقد من جديد، لن يُعْفى السوريّون، مهما أرجؤوا، من مشقّة التَّأمُّل في وجوه هذه العلاقة، ومن مراجعة ما تخللها، (ويتخللها)، من التباس، علمًا أنَّ النزوع إلى الإرجاءِ هو من التعبيرات عن هذا الالتباس.
من نافل القول إنَّه لا وصفة موصوفة لهذا التأمّل ولتلك المراجعة تصلح لكلّ زمان ومكان، ولعل هذا الغياب الابتدائي هو من الأسباب التي تجعل من متابعة المشهد الثقافيّ السوريّ وسجالاتِه (لاسيما في هذه المرحلة من عمر الحرب الأهليَّة، حيث يبدو وكأن الأعمال العسكرية باتت أشبه بالمزيد من الأمر نفسه)، أمرًا يستحق التملّي منه (مع الحذر من المبالغة في تأويل أبعاد هذه السجالات).
لا وجه شبه للوهلة الأولى بين النقاش الذي رافق في كانون الأول/ديسمبر الماضي افتتاح معرض يوسف عبدلكي، «عاريات»، في غاليري كامل في دمشق، وبين النقاش الدائر، حتى الساعة، على إهداء عائلة سعدالله ونوس مكتبته إلى الجامعة الأمريكية في بيروت. فعبدلكي حي ناطق يرزق وله، إن شاء، أن يُرافع عن نفسه وعن خياراته، في حين أنّ الموت الذي أدرك سعدالله ونوس الراحل لعشرين خلت، لا يدع له من سبيل إلى مخاطبتنا نحن الأحياء إلا بلسان التَّراجِم : الورثة منهم بالقانون والورثة منهم بالإرادة. ورغم أن هذا الفارق ليس بالأمر القليل، فالنقاشان، في النهاية، يُحيلان إلى الصِّلَةِ بـ«النظام» كـ«حارس للنظام العام» في حالة عبدلكي، أو كـ«حارس للذاكرة» في حالة ونوس ــ علماً أن وظيفتي الحراسة هاتين لا تستغرقان وظائف النظام المتعددة التي تدور في فلكها علاقة الثقافة وعمّالها به.
نهاية الندوة التي أُشهر خلالها إهداء مكتبة سعدالله ونوس إلى الجامعة الأمريكية، سألَ أحَدُهُم الكاتب والناشر السوري فاروق مردم بك الذي قدّم خلال هذه الندوة شهادة عن سنوات ونوس الباريسية: «هَبْ سعد الله ونوس حيًّا يُرْرق، أيّ موقف تراه يقف مِمّا يجري حولنا؟». بأناقة أجاب مردم بك، أو لم يجب، «لا أعرف… ليس لحيٍّ أنْ ينوب عن ميت»…

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى