مَكرُ الخطاب الإعلاني يقدم على تمجيد الفردانية والتملك والاستهلاك

عبدالدائم السلامي: في واقع عالميٍّ سائلٍ فَقَدَ فيه الإنسانُ حاضنتَه القِيَمِيَّةَ وصار على حدّ عبارة زيغمونت باوْمَان فردًا «بلا روابط اجتماعية» لا يزيد في جميع أحواله عن كونه موضوعًا معزولا وقابلا للاستهلاك الرمزيّ، وينالُه التلفُ والفساد، كما ينال بقيّةَ السلع التي تُباع وتُشترى، بدأ خطابُ القيمة بكلّ حمولته الأخلاقية يجد له الآن محلاّ في كتابات المثقَّفين، من خلال إثارتهم الجدلَ حول صلته بخطابات أخرى موازية له تتغيَّى الاستحواذَ عليه وتفتيتَ جوهره على غرار الخطاب الإعلاني.
لا نعدِمُ سعيَ الخطاب الإعلاني (المرئيّ والمكتوب والمسموع) إلى إذابة مفهوم القيمة الأخلاقية داخل حيِّزٍ استهلاكيّ بحتٍ، بما له من قوّة ماديّة ورمزيّة تخوّل له التحكّمَ الخفيَّ في مواقف الناس، وفي توجيه سلوكهم اليوميّ، وفي تعديل اختياراتهم المعيشيّة، دون أن يعنيه شيءٌ في ذلك سوى تحصيلِ منفعةٍ لفردٍ أو لفئةٍ من الناس. ولا شكّ في أن هذه المسألة تثير في واقعنا العربيّ مجموعةً من الأسئلة، فضلّنا البحث لها عن إجابات عبر عرضها على الكاتبين يحيى بن الوليد باحث في النقد الثقافي من المغرب، ومحمد المحفلي كاتب وشاعر من اليمن. **

يحيى بن الوليد: في الإعلان
التلفزيوني والثقافة الفرعية

في واقعنا الراهن يصعب الاستقرار على إعلان محدّد لاعتبارات عديدة في مقدّمها العولمة أو بالأدق المجال العولمي المتمثل بالتكنولوجيا الإلكترونية والانفجار الإعلامي وتعدد وسائط الإعلام وشبكات التواصل، والعولمة بآليتها التفكيكية، لكي لا نقول «التخريبية» للهويات الفردية والجماعية وللغات الفردية والجماعية أيضا. وإلى جانب العولمة هناك الانفجار الثقافي والانشطار الهوياتي الذي عصف بالعالم ككل، الغربي الرأسمالي ذاته بالنظر إلى بروز «ثقافات» المهاجرين، وعلى نحو ما أخذ في التجسّد من خلال معدلات التعاطي مع قنوات تلفزيونية محدّدة. ففي فرنسا أو بلجيكا أو هولندا… الملاحظ على سلوك المهاجرين، أو المنحدرين من أصول عربية، أنهم لا يشاهدون القنوات الأوروبية وإنما القنوات العربية. ولعل هذا ما يشكل مصدر إزعاج للمسؤولين «الإداريين» في البلدان الأوروبية. ومن دون شك فالمشكل له طابع ثقافي وهوياتي محض. ومن هنا صعوبة التعاطي معه وفق أي نوع من المقاربة الأمنية أو الكمية.
ويجب التنصيص على أن التعاطي مع هذه القنوات، وسواء في المهجر أو في البلدان العربية، لا تتحكم فيه «الثقافة العالِمة» ولا البرامج الثقافية أو النقاشات العامة، ولا صناعة الخبر ولا لقاءات الرأي والرأي المضاد. قد يكون هذا الجانب حاضرا بشكل من الأشكال أو حتى بأكثر من شكل، غير أنه، في نظرنا، ليس هو الأهم والحاسم. فالناس لم تعد تكترث بالقنوات المكرّسة وباللغات المنمطة والخطابات المدروسة والصور الفاتنة. ولعلّ هذا ما يبرر تواجد ما يزيد عن ألف قناة فضائية في العالم العربي.
وفي ظل وضع من هذا النوع صار من الصعب أن نفرض على الناس هذا الإعلان دون سواه أو هذه الأغنية دون سواها… وغير ذلك من أشكال الإنتاج التلفزي. ومن حسنات «النقد الثقافي»، الذي وجد في «المنتوج التلفزيوني» مبتغاه النقدي، أننا صرنا بصدد أنساق فرعية ومضمرة كثيرة بدلا من أنساق جامعة كبرى وجارفة، كما في السابق. ومن الجلي أن تكشف مثل هذه الأنساق عن كنه مضامينها وآليات اشتغالها من خلال «ثقافة محدّدة» تتحكم في القنوات التلفزيونية، ومن منطلق جغرافيات مختلفة ومتنوّعة ودالّة على ثقافات فرعية غالبة داخل الثقافة القومية الواحدة. ومن داخل هذه الثقافة الفرعية ينتعش ويتوالد الإعلان الذي يظل في شكل توابل تؤدّي دورها. ومهما كان الأمر فإنه ينبغي عدم التعامل مع الإعلان وكأنه مجرد «فواصل» في الدفق التلفزيوني أو كأنه «مرتقى أنفاس». فهو لا يخلو من «خطاب» (مباشر في الأغلب الأعم) ومن خطاب يسهم بدوره في «التحويل الملموس» الذي يزاوله التلفزيون على الناس، خاصة في حال التذكير باستهداف قسم كبير في الإعلان لـ«الجسد» البشري وفي سياقات مجتمعية خليطة ومتدافعة ومحفزة على منظومة قيمية وثقافية مغايرة قائمة على تمجيد الفردانية والتملك والاستهلاك.
أجل ثمة نزوع نحو لغة عالمية أو نحو نشأة لغة كونية. وهو ما أفضى، من وجهة نظر أنثروبولوجية، إلى اختزال التنوع الثقافي، إضافة إلى «العصر المرآوي» أو «عصر الصورة» أو «عصر المرور عبر الشاشة» الذي سيلخصه الفيلسوف جان بودريار بفكرته الجامعة عن الصورة باعتبارها علامة دالة تفوق في أهميتها ما تدلّ عليه، بل تعمل على تعويضه. ومعنى ما سلف أن المصداقية الكاملة للصورة لم تعد في الإحساس بالصورة ولا بالظروف التي التقطت فيها، كما يقول الكاتب الصحافي فيليب كينيكوت. نحن، هنا، إزاء ما يصطلح عليه بـ«الطابع التوسّطي للصور» الذي يجعلها مستقلة عن مكان نشأتها وبالقدر ذاته يمكّنها من أن تنتقل إلى سياقات مكانية مختلفة.
وعلى مستوى آخر، وفي المدار الذي يفضي بنا إلى الإعلان، فإنه يمكن الاتفاق حول ما سلف، إضافة إلى دور الصورة وما يرافقها من تضاد لوني آني ومن حركات مدروسة في سياق استراتيجيا التأثير. غير أنه ينبغي ألا ننغلق في إطار من هذا التحليل بمفرده دونما إيلاء أهمية لـ«الكلام» (الشفوي) الذي يسهم في الارتقاء بالإعلان إلى مستوى «النص الإعلاني» القابل لأن يقرأ، والقابل لأن تفك شفراته اعتمادا على مكاسب مناهج اللسانيات والدراسات التواصلية والعلوم الاجتماعية أيضا.
والأكيد أننا لا نرغب في أن نجعل من الكلام رديفا للإعلان، لأن الصورة تظل في الواجهة، بل إن الصورة تهيمن في أحيان وتجعل الكلام بدون تأثير. غير أن هذا التحليل لا يعدو أن يكون جانبا في مجموع النظرة للإعلان في ضوء الانفجار الثقافي وفي ظل المنعطف الجغرافي، وباقي أشكال الانقلاب على الأنساق الكبرى واللغات الوثوقية.
ففي نص إعلاني مغربي حول منتوج غذائي (ماركة من الزبدة تسمى «ماكدور») لا بد من الصورة، ولا بد من أن تتأطر الصورة ضمن ظروف محدّدة كما أسلفنا، وبإخراج يفوق الشيء، إلا أن «قوة النص» ــ ومن ثمّ تأثيره ــ من كلماته المعدودة («دُورْ دُورْ… وترجعْ لماكدورْ»). إعلان ثانٍ، حول منتوج طماطم، يسير في الاتجاه ذاته، ويقول: «ماطيشة ديال سْبعْ منها ما تَـشْبَعْ». وإذا كان الإعلان الأوّل يستلزم صورة مرئية لكن دون أن يجعلها تعلو على الكلمة المسموعة، فإنه في حال الإعلان الثاني ــ وبالنظر للطابع الشعبي لأكلة الطماطم ــ فإن الحاجة تكاد تكون منعدمة للصورة مقارنة مع الكلمات التي هي شرارات نص الإعلان.
أجل، يظل الإعلان مرتبطا بالإنسان باعتباره كائنا اقتصاديا، غير أن هذا لا يمنع من اجتراح طرق محدّدة للتسويق. ومهما كان وعينا مواكبا لتطورات المجال الرقمي، بمتغيراته واشتراطاته، ومدى تأثيره في مستوى تجديد الرؤية للأشياء، فإن التقنية تظل امتدادا لحواس الإنسان أو ثقافة الإنسان، إضافة إلى أن تشغيل التقنية يتم في إطار من ثقافة منتظمة في سياق مجتمع وتاريخ. والنصان الإعلانيان السابقان، في النظر الأخير، عبارة عن جملتين لا أكثر، لكنهما قائمان على كلمات منتقاة بدقة وكلمات ممتلئات ومنتظمات في إيقاع نحوي حريص على إشاعة الفرحة والفرجة والإشباع الوجودي… بدلا من تلخيص الكائن في «ماكينات العلف».

محمد المحفلي: شِرْعة
المال أقوى من شِرعة القيمة

يعيش العالم اليوم أزمة القيم، في بعدها الإنساني العام أو الخاص على مختلف المستويات، فمن العولمة التي مثلت صدمة حقيقية للشعوب وثقافاتها، وما تملكه من خصوصيات ثقافية ومنظومات قيم حاكمة، إلى ما تسمى بالليبرالية الجديدة، التي تتغوّل عبر الشركات متعددة الجنسيات أو الشركات العابرة للقارات والأجناس والثقافات، وهي شركات تضع الربح المادي فوق كل الاعتبارات الأخرى، بل إنها تتجاوز منظومة القيم التي كانت الليبرالية نفسها تقوم عليها، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا نشأت هذه الفلسفة النفعية الجديدة في مساحات فارغة تتجاوز فيها الدول والكيانات السياسية، لتشكل سلطة أعلى لا تعترف بالحدود ولا بالثقافات ولا بالخصوصيات المجتمعية ولا بمنظومة القيم، وبدأت تؤثر بصورة مباشرة حتى على حكومات الدول الكبرى التي هيمنت على المشهد السياسي والاقتصادي العالمي لتصبح هذه الليبراليات بمثابة إمبراطوريات جديدة تشكل خطرا حقيقيا على القيم وعلى الديمقراطية التي كانت الليبرالية الكلاسيكية تتغنى بإنجازها بوصفها نهاية للتاريخ. أما على مستوى عالمنا العربي وما يشبهه من دول العالم الثالث فإنه يمثل الساحة المعملية لاختبار أدواتها الجديدة متجاوزة كل العقبات القانونية والأخلاقية وما يصاحبها من قيم.
إن النزعة الفردية هي امتداد طبيعي لهذه الإمبراطورية الجديدة، حيث تحتكر هذه الشركات الاقتصاد، ومن ثم تعمل على السيطرة على القرارات السياسية للدول الكبرى، ويصل امتدادها إلى كل الدول والكيانات النامية بالضرورة، وهي شركات يؤول الأمر في نهايتها إلى عدد محدود من الأفراد يتحكمون بمصائر الدول والشعوب والثقافات متجاوزين حاجز القوانين والأنظمة والشرائع، عدا شرعة المال والكسب والثراء على حساب مليارات البشر. من هنا فإن ثقافة التسليع هي نتاج طبيعي لهذا التغير الفلسفي والفكري الذي يهيمن على المشهد العالمي والذي يتحرك بصمت ودون ضجيج، حيث تمثل الآلة الاقتصادية الأداة الرئيسة لهذه الفلسفة الفكرية والسياسية الحديثة ومن ثم فإنها في سعيها نحو الفردية لا تنظر إلى منظومة قيم ولا إلى سواها، مما له علاقة بالمجتمعات والخصوصيات الثقافية فيها وحتى الإنسانية.
لا يبدو غريبا إذا النزعة التسليعية في الخطاب الإعلاني المنطلق أساسا من هذا الجانب النفعي الفردي، الذي ينطلق خدمة لمصالح تلك الشركات التي تنظر إلى المال بوصفه الغاية الأساسية، فلا قيم ولا قوانين ولا قواعد حاكمة ولا مبادئ إنسانية. فهي تشتغل مستغلة كل ما في يدها من أدوات حديثة ووسائل اتصال وتكنولوجيا تعمل على الوصول بها بسهولة ويسر إلى المستهلك وفي مختلف بقاع العالم، متجاوزة الحدود الثقافات واللغات والخصوصيات. إن من الصور الموحشة لهذا التفكير الاستهلاكي المتجاوز حدود القيم ما تقوم به بعض شركات الإعلان الحديثة التي تعمل على جمع بيانات مستخدمي الإنترنت من خلال تتبع المواقع التي يزورونها والموضوعات التي يبحثون عنها أو تلك التي يكثر التردد عليها وجمع حتى المعلومات الدقيقة من أجهزتهم وإدخال كل ذلك في برامج حديثة تعمل على تحليل الرغبات والتوجهات وبيعها لشركات أخرى، لتسهل معرفة رغبات المستخدم ومن ثم تقديم ما يرغب. هذه الصورة التي تبدو في ظاهرها تسعى إلى المنفعة لكنها تمثل الصورة الأشنع لانتهاك الخصوصيات والتجسس على المستخدمين، ومن ثم رصد طريقة التفكير وكيفية التحكم بالتوجهات العامة وتلبية الرغبات وهي تخدم في الأخير مصالح تلك الشركات قبل غيرها.
إن الخطاب القيمي، على الرغم من محاولته التصدي لهذه الخطابات الإعلانية على مختلف تمظهرها، فما زال قاصرا، ذلك أن الخطاب الإعلاني يوظف ما أمكنه من أدوات حديثة وتقنيات تكنــــولوجية متطورة مستعينا بمختلف العلوم النفسية والاجتماعية والتقنية، للوصول إلى هذه الغايات، في حين أن الخطاب القيمي ما يزال عند مستوى اللغة فحسب، ولكي يكون على مستوى المواجهة كان ينبغي له أن يدرك ما بيد ذلك الخطاب ويستعين بهذه الوسائل الحديثة حتى يتمكن من المواجهة والانحياز للقيم. إن الشركات الحديثة لاسيما الصناعية منها تضع ضمن معايير الجودة فيها مدى خدمة البيئة وكيف الحفاظ عليها، وكان ينبغي أيضا أن تضاف إلى هذه المعايير خدمة القيم والمحافظة عليها بوصفها العنصر الأساسي للحفاظ على الأسس الإنسانية التي تمنح الديمومة والاستمرار.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى