عبدالكريم كاصد: نفضل ترجمات خاطئة على ترجمات بلا إحساس

محمد الحمامصي

يشكل العراقي عبدالكريم كاصد شاعرا وساردا ومترجما وناقدا رؤية فريدة للعالم، فقد استطاع عبر تجربته الشعرية التي قدمها في 15 ديوانا أن يرسخ صوتا شعريا له خصوصيته وثراؤه الجمالي والإنساني، صوتا مفعما بصراعات الوجود في هذا العالم الإشكالي الملتبس، ليحتل مكانة متميزة في التجربة الشعرية العراقية والعربية، إضافة إلى تجربته في الترجمة التي احتفت خاصة بالشعر العالمي.
الأماكن والقصائد

يتساءل عبدالكريم كاصد “كيف أعرّف المراحل التي مررت بها، بالأمكنة؟ بأزمنتها؟ بالمنفى الذي صار وطناً؟ بالوطن الذي لم يكن غير منفى؟ بالحاضر الذي تقاسمته أمكنة شتى؟ بم أؤرخ المراحل؟”.

ويقول “بعد مجيء القتلة وصعودهم إلى السلطة سنة 1963 اختفيت أشهراً ثم وجدت وسيلة للهرب، فتغربتُ ثم عدتُ ثم تغربتُ من جديد، بعد مجيئهم ثانية في أواخر السبعينات من القرن العشرين. كان هربي الثاني موجعا. اختفيت في بغداد طويلا بعد أن أطلقتُ لحيتي وغيرتُ ملامحي ولم أجد من وسيلة للهرب هذه المرة سوى الجمل أعتليه أسبوعاً كاملاً في صحراء قفر، مع قافلة ضمت ثمانية أشخاص وستة جمال. ثم توالت المنافي: الكويت، اليمن، سوريا، لبنان، موسكو، لندن، وفي كل موضع ثمة كتاب ونصوص وعذابات وجوع وتشييع صديق واستذكارات وطن ومناف بأحداثها وأناسها فاختلطت المراحل وما عاد حاضرا لم يكن إلا ماضياً مكرورا”.

وحول علاقته باللغة -وهي علاقة خاصة في مجمل أعماله- يشير الشاعر إلى أنه لم يعد له مأوى بعد كلّ هذه الأسفار والمنافي إلاّ اللغة، فهي سكنه وقد أصبح بلا سكن خفيفاً طائراً يمسّ المكان ولا يقيم فيه، خفيفاً إلاّ من لغته.

من ناحية أخرى يرى كاصد أن المشهد الشعريّ العراقيّ واسع لا يحدّه مهرجان، أو ظاهرة تسود بين فترة وأخرى، وما يبدو من طغيان لهذا النمط من الشعر أو ذاك ما هو إلاّ عرض لا يمكن الاحتكام إليه.

كما يؤكد الشاعر أن قصيدة النثر يكتبها الآن شعراء من أجيال شتى، وحضورها الآن كشكل شعريّ سائد لا يلغي الأشكال الشعرية الأخرى التي قد تهيمن في مناسبات أو أحداث معينة، ولكنها لن تكون السائدة أبداً، في تجربة شعرية لها تاريخها العريق، في القدرة على التجدد والخروج على المألوف شعرياً أو حياتياً، حتى وإن بدت على غير جوهرها في مهرجان ما، أو حدثٍ ما، وهي، في رأيه، مهما حاولت -ولا سيما قصيدة العمود- أن تستوعب الواقع فإن شكلها يقف عائقاً، إلى حدّ ما، أمام قدرتها على تحقيق ذلك، لأنه شكل محدود. ولكن، يستدرك كاصد، قد يسود العمود في قصيدة النثر ذاتها حين يقف الشاعر عند حدود الشكل، دون تجاوزه إلى الجوهر الإنسانيّ في التجربة الشعرية.
ترجم عبدالكريم كاصد العشرات من الأعمال الشعرية والنقدية، ويلفت إلى أن علاقته بالترجمة تعود إلى ما يزيد عن أربعين عاما، وما ترجمه من مجموعات مختلفة لم يكن جراء عقود أو تكليف، إنما هو وليد ذائقة ومعرفة بالآخر. ودون هذه الذائقة وهذه المعرفة، لا يجد نفسه مدفوعاً إلى الترجمة أبدا.
الترجمة المنقذة

يوضح الشاعر “يتطلب العمل المترجم أيّا كان سرديا أم شعريا أم فكريا معرفة به، وتذوقا له، ودون هذين الشرطين تصبح الترجمة عبئا على المترجم والقارئ معا، وإن كان الشرط الآخر المتعلق بالذائقة ليس ملزماً في بعض الأعمال التي تتطلب جهدا معرفياً كبيراً، وقد لا يكون للذائقة فيه دور كبير كما في الأعمال ذات الطابع العلميّ أو الفلسفيّ، رغم اقتناعي بوجودها الخفيّ حتى في هذه الأعمال. في ترجمة الشعر لا تكفي حتى معرفة المترجم بموضوعه إن لم تكن هناك ذائقة تكمن خلفه وإحساس عميق بلغة الأصل واللغة المنقول إليها. وقد يضيف البعض إلى الذائقة والمعرفة الحدس في قدرته على استيعاب النص وفهمه. ثمة ترجمات تطالعنا بلا أخطاء ولكنها لا تُقرأ حتى أنك تفضل الخطأ على صوابها لأنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الحساسية التي تتطلبها الترجمة”.

ويشير كاصد إلى أن معايير الترجمة تختلف من مترجم إلى آخر، يذكر منها: رواج العمل الأدبيّ حتى ولو كان ضئيل القيمة فنياً، والجوائز، والذائقة الشخصية، وثقافة المترجم وعمقها، وغيرها من المعايير الأخرى. وقد يكون بعضها مضرّاً كالجوائز التي قد تتخذ معيارا مؤسساتيا وليس إبداعيا، وقد تكون ذائقة المترجم نفسه فاسدة، لكن ما هو مهم أيضاً، ولا سيما في الشعر، أن يكون العمل الشعريّ قادراً عبر المترجم على الانتقال من منظومة لغة إلى منظومة لغة أخرى، ليصبح جزءاً منها دون أن يفقد خصوصيته.

وينبه ضيفنا إلى أن المترجم مدعو طوعا إلى ترجمة بعض الأعمال الأدبية، كمبادرة منه للإسهام في الشأن الثقافي، ويقول “المترجم مدعو إلى هذا الإسهام حين يكون حرّاً في اختياره غير تابع لمؤسسة لها شروطها الخاصة. حدثتني شاعرة إيرانية حين سألتها عن سبب سوء ترجمة أحدهم رغم ذيوع شهرة ما يترجمه، فأجابتني ببساطة لأنه مرتبط بمؤسسة تفرض عليه أسماءها ونصوصها واختياراتها بشكل عام. لقد كانت الترجمة منذ البدء مشروعاً وإسهاماً فرديا مبادراً وهذا ما تذكره كتبنا القديمة في إشاراتها إلى ما ترجم حتى قبل العصور الإسلامية في تاريخنا. ولكن ذلك لا يتعارض مع التخطيط الواعي المبرمج لاستيعاب آخر التطورات في الآداب العالمية المختلفة”.

في جانب آخر يقول كاصد “في عالمنا المضطرب حيث الحروب الدائرة توسع الهوة بين الهويات ما زال هناك للثقافة والترجمة على الأخص دور في التقريب بين هذه الهويات لا سيما أنّ القطيعة لم تعد سمة العصر، بل تواصل الهويات والثقافات وتداخلها، وما يبدو قطيعة ليس في جوهره غير حدث عابر مهما امتدّ زمنيا، لأنه ليس نتاجاً طبيعياً لحركة واقع أو تاريخ وإنما هو وليد جشع الرأسمالية العالمية وخططها خارج أي قيمة ثقافية أو إنسانية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى