الشِّعْرُ دَمُ الاسْتِعَارَاتِ

صالح البريني

(1) الشعر كائن لغوي، عصبه الخيال، وكينونته تتشكل عبْر المزج العميق بين الذات كتجربة في الوجود والحياة، والكون كمنبع للصوغ الشعري والجمالي، وهذا ينجم عن المتخيل، الذي يعتبر ملح التصوير الفني والشحنة التي تزيد هذا الشعر أصالة في الرؤية التي تتشكل جرّاء زاوية النظر المنطلق منها في عملية الإبداع.
ومن هنا تكمن حقيقة الشعر الذي يلزم الشاعر أن يكتبه بدم الاستعارة المتجدد والمجازات الناضحة بالمختلف بعيدا عن المؤتلف في صكوك بلاغة متجاوزة، بفعل ما يعيشه الدرس البلاغي من انعطافات وانجرافات حطّمت المنظور التقليدي للصورة الشعرية. ذلك أن الشعر، اليوم، لم يعد لصيقا بأسلوبية التشابيه المكررة والاستعارات المبثوثة في كراسات البلاغة الكلاسيكية، بقدر ما خلق وأبدع بلاغته الموسومة بالمفارقة البلاغية، التي تنبني على أسس تخرق السائد، وهذا حال شعرية ما بعد الحداثة.
فإذا كانت شعرية الحداثة ترتبط بتفجير اللغة والجنوح نحو شعرية الرؤيا، من أجل تأثيث القصيدة بطاقات الخلق والتجديد، فإن شعرية ما بعد الحداثة شعرية منفلتة يصعب وضعها في صنمية شكلية معيّنة، لكونها تجربة منبثقة من تصور للكتابة الشعرية أساسه الانفتاح على العالم بقلب الرؤيا الشعرية إلى شعرية الرؤيا، بمعنى أن الشاعر يخلق عوالم متخيلة مفصلها الذات بتشعباتها والكون بتعقيداته. فالذات لم تعد رهينة الأيديولوجيات المنغلقة وسجينة التصور الوحيد، والسرديات الكبرى؛ والنظريات النقدية التي لا ترى الشعر إلا مجرّد نفخ في بالون التعبير الأجوف والمسكوكات القولية المتكلسة، بل غدت نابعة من عمق كوني، ذلك أن الذات حينما تتأمل العالم؛ فهي تفتح معه حوارا جوانيا هادئا وصامتا؛ يتميز بالتأمل الحلولي بينها وبين الكون، ولا غرابة في ذلك فالشاعر لا يكتب سيرة الذات بطريقة مجانية، وإنما يكتبها بدم التجربة وحياة الخراب . هذه الأخيرة التي تعبّر عن المأزق الوجودي الذي توجد عليه الذات بسبب ما يجري من تململات وتزحزحات في الفكر والإبداع، وتحولات في القيم.
إن العالم، في هذه المرحلة المفصلية، يكره تمجيد القيم والأخلاق، ويحيا في ألفية ثالثة تتصف بالعمى العقلاني، وتنبذ العقلانية المتنورة ذات البعد الكوني؛ هكذا يعثر الشاعر على نفسه مطوّقا باللاقيم والعشوائية في الفكر والتسليع الثقافي مما حوّل الإنسان إلى كائن بطني كاره للعقل. من هنا يدافع الشاعر عن آخر الحصون الإنسانية بنصية شعرية تؤمن بتجاوز المنطق التجاري للنتاج الفكري الذي يسعى إلى ترتيب فوضى العالم، ويهتك البشرية في الحق في الحياة والإبداع، ويفتك بالأحلام والآمال.
شعر ما بعد الحداثة نص لا يقول العالم كما قاله السابقون، ولكن يقوله بلغة مضوّعة بروائح الجثث العطة، والأنفاس المنفية والمشرّدة، ممزوجة بالألم الوجودي والنزيف الحضاري الذي غار في العمق الإنساني، فأصبح الشاعر يبحث عن وردة تحيي ولو النَّفَس الأخير من جسد الأرض الآيل إلى الموت، فالخراب والتدمير والمنافي والعصبيات المذهبية والصراعات الدامية بين الأمم هو العنوان البارز الذي تمُجُّه تجربة شعر ما بعد الحداثة، وتحاول قدر الممكن الاحتفاء به بوساطة سخرية لاذعة بغية إصلاح هذا العطب الذي يعتور الإنسان والوجود.
(2)
شعرية ما بعد الحداثة تفخخ الأيديولوجيات وتخلق أيديولوجية الذات المتقلّبة، القلقة المتوترة المتسائلة والمنفية المتشظية، الجريحة المؤمنة بخوض غمار التفخيخ الشعري، بمعنى البحث عن نصية منفلتة من عقال الواقع بحمولاته المبتذلة والمقترنة بواقع الذات والكون بحمولاته الفلسفية، أي الأسئلة الشاكّة وغير المطمئنة والمحيّرة والمتحيّرة، ولعل الاحتفاء بها ما هو إلا فرار من قيود الصنم الشعري التفعيلي الذي هو الآخر قد وصل إلى الباب المسدود في إبداعية نص شعري مختلف، هكذا ينزع الشاعر إلى التعبير عن عالم الكارثة بمعانيها الوجودية، ذلك أن كارثة الإنسان الذي تحوّل إلى شيء، أي تشييء الإنسان بعدما أصبحت أنسنة الأشياء لسان حال كل تجربة شعرية مفارقة، وفي هذا تحطيم للصنمية الشعرية التفعيلية بخلق نص منفتح على أفق تجريبي يحتفي بالذات والكون بطريقة تعبيرية عنيفة، فاللغة مخنوقة وعنيفة احتجاجا على ما يسري من ثاني أُكْسيد وجودي في جسد الكون وذات الشاعر المتلظية بالإحساس بلا جدوى الحياة مادام المعنى قد فَقَدَ سطوته، وغدا العبث لسان ألفية مقيتة في كل شيء.
إن التفخيخ الشعري ناتج عن الرغبة في خلق شعرية متحوّلة ومنفتحة على الحياة في تجلياتها المفكّكة والمتفكّكة، وعن نداء عميق للإنصات إلى نبض الذات والكون الذي يعيش حالة انحباس جوانيّ يُدينُ هذا التلوث في القيم والإنسان والعالم. ومن ثم تأسيس لشعرية متشظية ومنتمية لصوت الداخل ومصغية لنحيب الخارج.
(3)
إن التفخيخ الشعري نابع من تصور في الكتابة الشعرية يرتكز على مقوم الانفتاح على الذات كمكون من مكونات العملية الإبداعية؛ والعالم – ليس في محاكاته أو تصويره التصوير السطحي – باعتباره محفزا مهما في بلورة رؤية تعبّر عن موقف الشاعر من الذات والعالم، ولعل ما تشهده الشعرية العربية، في هذه الألفية الثالثة، من تجارب شعرية في العالم العربي دليل حيوية وحياة، إذ نجد في العراق وسوريا واليمن تجارب شعرية تحتفي بعوالم الموت والخراب والقلق الوجودي والغربة، بجوار جثث مفحمّة أو مقتولة غيلة، وحضارة تهوي إلى ذاكرة النسيان، بالتساوق مع التجديد في المعجم الشعري، الذي لم يبق ملتصقا بالهم القومي أو السرديات الكبرى التي تم خرقها وتحطيمها، نظرا لما عرفه الواقع من ارتجاجات مسّت وعي الشاعر تجاه الذات والعالم. وبالتالي غدونا داخل بنية نصية منفتحة على الغرائبي واللامعقول واللاجدوى من الحياة في ظل هذا المسخ الحضاري الذي يَصِمُ الحضارة المعاصرة، حضارة القتل والتخريب والماركوتينغ والمصالح الذاتية الضيّقة، وما يَمُرُّ منه العالم العربي من تفتيت وتشرذم وتناحرات مذهبية؛ كان له التأثير القوي والبارز في منظومة شعرية التفخيخ، فتحوّل النص إلى كتلة متشظية من الإحساس والشعور بعبثية الحياة؛ وتشظي الكائن في عالم مظلم، تعرّت حقيقته ومبادئه التي كانت لعقود من الزمن المعيار الموضوعي لتقدم الأمم. فالعقلانية الغربية تكشّفت وأبرزت العداء لكل ما هو عربي إسلامي وإنساني، ممّا أدى إلى فقدان الثقة في هذه العقلانية المقيتة، التي لم يَجْنِ منها الإنسان العربي غير المنافي وضياع الهوية، بفعل هذه المعطيات القاسية على ذات كانت تحلم بقيم الغرب وحضارته، وتنافح عن عقلانية تقدّر الإنسان وتمجّد الاختلاف.
(4)
لاشك أن التفخيخ الشعري هو استجابة منطقية لما تعرفه الذات من هزّات في القناعات، وإحساس بضرورة ابتداع كتابة لا تلتصق بما هو ضيّق، بقدر ما تنفتح على عوالم خفية من الأعماق، ولعل الانغماس في ما هو ذاتي دليل حياة، على كون الكتابة ما هي إلا ارتداد الصوت الداخلي للذات، عبْر اللغة داخل البياض. وعليه يمكن القول إن شعرية عربية جديدة تتخلّق من مرجعيات ثقافية وشعرية وانتماءات في الحياة والوجود تؤسس لمشروع في كتابة الذات؛ كتابة تستشرف أفق الوعي والإدراك؛ حتى تتمكّن من فتح كوّات للحوار المتأمّل والمتفاعل بعيدا عن الانفعالية المجانية، التي وسمت الشعرية العربية التي ظلت متواشجة مع قوالب تعبيرية ميّتة ومتكلّسة، ولعل اختيار شعراء التفخيخ الشعري هذا المنحى في الكتابة الشعرية مربطه الأساس الدعوة إلى القبض على ما هو جوهري في هذه الذات، التي تشكّل تاريخا ملغوما بسيريات منبثقة من صُلْب المكابدة الإبداعية. هكذا تفتح شعرية التفخيخ أفقا جديدا لكتابة متوجّعة بسؤال وجودي ورؤية تقلب كل أعراف الشعرية العربية، ومن تجليات هذه الكتابة تتمثل في الارتكان إلى ما هو ملتبس في الفكر الإنساني، خصوصا أن الظرفية العالمية المتميزة بالانهيار القيمي والأخلاقي، وشيوع ظواهر التطرف الديني وانسداد الأبواب لحوار يقبل مبدأ الاختلاف بين الحضارات، جعل الشاعر الحالم بعالم أكثر حياة وجمالا يشعر بالاغتراب الذاتي والوجودي، لكن ما يجري في الواقع تعبير عن أزمة العقل الإنساني، وانبلاج فكر وفلسفة لا يعيران للإنسان أي قيمة، وإنما تعطي الأولوية لما هو مادي محض، فكان لهذا انعكاس على الذات والعالم .

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى