تحولات الرواية العراقية في مرحلة ما بعد التغيير

نادية هناوي سعدون

يذهب التصنيف القطاعي النوعي لفن الرواية في العراق في مرحلة التغيير ما بعد عام 2003 الى تمييز صنفين روائيين مختلفين على مستوى الخطاب والبناء، أولهما صنف روائي تابع لما قبل التغيير، مقاطع لما بعد التغيير، قابع في الظل شاهدا ومراقبا متمسكا بمعاييره المعتادة والكلاسيكية. وثانيهما صنف روائي مساير للتغيير وما بعده حاملا معايير تنظيرية مستجدة انتظمت بموجبها المتغيرات الجديدة والوقائع المستحدثة.
وكان من نتيجة اختلاف هذين القطاعين أن اختلفت طبيعة تداول رواية ما بعد التغيير للوقائع من ناحية الفواعل السردية وما يتبع ذلك من تأويلات روائية أو استفاضات تنظيرية أو أسئلة غير نمطية، تؤصل لهذه القطاعية من قبيل: ما المضامين والقضايا الجديدة التي ابتدعتها رواية ما بعد التغيير؟ وهل كان فيها بحث عن صيغ وأشكال وتقنيات سردية ذات منحى حداثي وتجريبي؟ أم ظلت ويلات الحرب وخيبات الايديولوجيا جاثمة عليها؟
ولعل من البدهي لمن يتصدى لمثل هذه الأسئلة أن يقف بتأن عند الولادة الجديدة للرواية بعد سقوط الديكتاتورية عام 2003 ليؤشر المواطن التي جعلت هذه الولادة متأزمة أو طبيعية بمعنى هل كانت متهيئة لهذا التغيير أو لا؟
ومعلوم أن الخطاب الروائي العراقي ما بعد التغيير قد شهد قلة اكتراث بواقع الثقافة العربية عموما والرواية العربية بشكل خاص مع انسياق غير متحرز نحو التقوقع والانعزال عنها في ظل ثقافة جديدة أنتجها العنف وعصف الفتن. ولا غرو أن ينبري بعض كتّاب هذه الرواية إلى التصدي لموضوعات واقعية معاصرة وراهنية بعضها كان من متراكمات الحقبة السابقة، وبعضها الآخر كان من يوميات الحقبة اللاحقة
تماشيا مع فضاء الحرية ونزوعا نحو الانفتاح على الآخر عبر شمولية موضوعية ومنظومة ثقافية معينة. ومن المحطات التي كان الخطاب الروائي ما قبل 2003 قد اهتم بتمثيلها وترك للخطاب الروائي ما بعد 2003 أن يظل دائرا في فلكها متحملا وزر تبعاتها رواية الحرب الثمانينية كمحطة من محطات الإبداع السردي العراقي التي لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها.
وإذا كانت الرواية التي عاصرت الحرب تحمل الهاجس التعبوي؛ فإن رواية الحرب ما بعد 2003 تجاوزت ما تقدم مغايرة وتضادا، سواء في نظرتها للحرب محتوى، أو في تعبيرها عنها مبنى وتركيبا. ونمثل على ذلك برواية «شرق الأحزان» للكاتب عباس لطيف، التي اتخذت من وقائعية الحرب الثمانينية موضوعا تم تناوله من منظور ساخر وتهكمي يجعل من المألوف اليومي غير مألوف، حيث كل مأساة تخالطها فكاهة ممضة وسخرية لاذعة وتهكم فانتازي.
وعلى الرغم من أن الكتابة الأدبية عن موضوع الإرهاب بأصنافه المختلفة ليست جديدة على الأدب الروائي، إلا أنها استجدت في مرحلة ما بعد التغيير كنوع من التبعات والتحديات التي شهدها العقدان الأولان من القرن الواحد والعشرين، ليس على المستوى المحلي حسب، بل على المستوى العالمي أيضا.
ولقد اتخذت الرواية العراقية من ثيمة الإرهاب موضوعا عبّرت من خلاله عن سلبية الشر بمفهومه الشمولي المضاد لكل قيم الإنسانية ووظفت في سبيل ذلك الأقنعة الأسطورية والصور الخرافية والميثولوجيا الشعبية والوقائع التاريخية والمذكرات اليومية، محاولة اقتناص تفسير لما يجري فيهما من أحداث لاإنسانية وفواجع تراجيدية كما في رواية «تسارع الخطى» للروائي أحمد خلف التي بينت إن الحياة الواقعية بمشكلاتها وسلبياتها ومعوقاتها كلها في كفة والإرهاب في كفة. ولذلك يقتنع البطل بوجود تبرير منطقي يحتم عليه تأجيل حل مشكلاته الحياتية الشخصية منها والأسرية والمهنية لحين كتابة مسرحية تسفه الإرهاب، وتؤشر إلى خطره كرسالة مجتمعية تهم المجموع لا الأفراد.
وفي رواية «فندق كويستيان» للروائي خضير فليح الزيدي يشكل الإرهاب ثيمة أساسية جنبا الى جنب ثيمة الحرب، في ظل واقعية راهنية محتدمة بين الحروب والحصار والديكتاتورية من ناحية وبين التفجيرات والتطرف والطائفية من ناحية أخرى.
إذا كانت الرواية في العراق في ما قبل 2003 معنية بالتجسيد لمنظومات التصارع القيمي، مما ترسخ في المتخيل الاجتماعي والمعرفي، فإن رواية ما بعد 2003 بدت أكثر انشغالا بالبحث عما هو مغيب أو غائر في الهوية الإنسانية. ومن تلك الروايات رواية «في انتظار فرج الله القهار» لسعدي المالح، التي استدعت المنظور القيمي للتصارع الإنساني بين الخير والشر، وقد ترك الكاتب روايته مفتوحة بلا نهاية ضمن إطار تجريبي يستحضر مرجعيات ثقافية وتاريخية ودينية وميثولوجية وعقائدية.
وامتازت الرواية في العراق عبر مراحلها المختلفة بالاهتمام بإشكالية البناء للزمان والمكان والشخصيات والأحداث، لاسيما في الرواية الثمانينية.. إلا أننا أخذنا نشهد في رواية ما بعد التغيير انحسارا واضحا في التجريب الشكلي مقابل اهتمام منساحٍ في البحث عن المضامين والموضوعات..
وكنتيجة منطقية ما عاد الروائي العراقي منشغلا بالآليات قدر انشغاله بالثيمات، لاسيما عند أولئك الكتاب الذين بزغ نجمهم في ظل التغيير وما بعده، ولعل هول المرحلة المعاشة بوصفها انعطافة خطيرة في تاريخ العراق المعاصر، وما رافقها من كم هائل من الموضوعات الطازجة والجديدة وغير المعتادة هو السبب وراء هذا اللهاث في احتواء أكبر قدر من تلك الموضوعات في مقابل تجاهل غير مقصود للأشكال والمباني.
وإذا كانت المرحلة الراهنة التي نعيش في أوارها لم تترك للروائي فرصة التجريب بسبب تسارعها واضطرابها.. إلا أننا لا نعدم وجود تجارب روائية أنتجتها أقلام روائية ذات مشوار طويل في الكتابة الروائية، أو أقلام روائية فتية، لكنها حصنت نفسها بوعيها وإدراكها لواقعها من أن تنساق وراء المضامين ساعية نحو الجدة والريادة والتفرد، فامتلكت خبرة احترافية خالصة لم تترفع بها على منغصات الواقع وإرهاصاته المدمرة ولكنها في الوقت نفسه استطاعت أن تحلق في آفاق التجريب وفضاءاته المتسعة، مقدمة أعمالا روائية غاية في اللانمطية، سواء في تداول الثيمات أو تجريب التكنيكات.
ومن ذلك الاتجاه نحو كتابة رواية التاريخ ورواية السيرة الذاتية التخييلية كرواية «أزمنة الدم» للروائي جهاد مجيد، الصادرة مؤخرا التي يستلهم التسريد فيها التاريخ القديم جنبا إلى جنب الواقع المعيش، في شكل تخييل سيرذاتي ينطوي على تجريب قصصي ينتهج نهجا واقعيا إيهاميا على مستوى الشكل والموضوع، كالتنوع في الضمائر والأصوات السردية، مع التلاعب بسيرورة الزمن والاستعانة بالتقانات الفنية الأخرى.
ومن الروايات التي يتخذ فيها التجريب صيغة استحضار الفعل الحكائي الميثولوجي القديم لتصوير الواقع رواية «دهاليز الموتى» لحميد الربيعي. ووظفت رواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي الفعل العجائبي بشكل متقن.
ولا ننسى أن الرواية النسوية في مرحلة ما بعد التغيير في العراق سعت جاهدة إلى أن تبتدع نسقا سرديا خاصا بها عبر الحفر في أساسات الامتداد العميق لقاعدة القيم الروائية الذكورية، مع تبني وعي جديد يعيد تشكيل الهوية المؤنثة، نحو دور أكثر فاعلية، يقوم على قبول التحدي عبر الدخول في اللعبة السردية بوعي وقصدية، ممارسا التأويل بعمق ودراية.. حتى إن تطلب الأمر أن يتحول إلى متلقٍ بوعي أنثوي.
وعلى الرغم من تشظي هيمنة الذات النسائية بين الكتابة والروي والتلقي، إلا أنها حافظت على مركزية المؤنث في العملية السردية، مشظية الآخر/المذكر على المستويين السردي والقرائي.. ليغدو هذا النوع من الكتابة السردية شكلا من أشكال رواية ما بعد التغيير، ونمطا من أنماط الواقعية الجديدة ذات الطرح الجنساني الذي يساوي ولا يغلب ويعادل، ولا يميز وهدفه تدعيم الوعي الأنثوي بهويته وجعله قادرا على مجاراة الآخر ومساواته، سواء أكان ذلك بالتفكيك والتشظي والنقض أم تم بالهيمنة والتسيد والإقصاء؟ أم تحقق بالانتماء والاحتواء والتبني؟
وهذا ما جعل للرواية النسوية داخل العراق وخارجه حضورها الفاعل ونمثل برواية «السماء تعود إلى أهلها» لوفاء عبد الرزاق التي قدمت شخصياتها النسائية متحصنة بقدرة موضوعية، تمكنها من إعادة صياغة كينونتها متعرفة على ذاتها الحقيقية مشيدة وعيها المؤنث من خلال الإعلان عن نفسها مقابل الإضمار للآخر.
وقد تمَّ لها ذلك عبر اللغة التي طوعت أنثويا لتكون في صالح المرأة نافضة عن كاهلها ذلك القهر الذي ظلت تعانيه حين كانت اللغة جزءا من خطاب يلبي دوافع الرجل ومجرد موضوع ثقافي، وليست ذاتا ثقافية أو لغوية، فامتلكت القدرة على انتهاك المعتاد وفضح الآخر.
وإذا كانت هذه الرواية قد شظت الهوية الأنثوية فإن رواية «الصندوق الأسود» لكليزار أنور كانت قد منحت الهوية نسقا ثقافيا جديدا تجاوزت به ثبوتية النسق المعلن فغدت المرأة هي الساردة القادرة على تخطي الوظيفة السردية إلى وظيفة ما بعد سردية عبر استثمار التقــــانات الفنية والتعالقـــات النصية بوتيرة نسقية حداثية تتـــجاوز المألوف أسلوبيا والمعتاد ثقافيا فالمــــرأة هي البطلة المنتجة للنص وصاحبة الامتياز السردي ظهورا أو تخفيا، وهي التي تضطلع بالحكي وتبتدع نسقه السردي الخاص. وقد فرض تعدد الأصوات النسائية في هذه الرواية، تجانســــا سرديا وكان لاستعمال تقنية المداخلة بين الأزمنة وتضميــــن الحكاية داخل الحكاية دور في تناوب السرد الذاتي بين الأصوات الروائية…
ختاما.. فإن متحولات الرواية ما بعد التغيير في العراق ومتغيراتها اتسمت بالغنى والثراء وهذا ما يجعلنا نفخر بجرأتها في المراهنة على المضامين والأشكال وبمغامرتها التجريبية كتقانات وأشكال منحازة إلى واقعيات بأشكال ومياسم خاصة وفريدة، وما ذلك إلا انعكاس منطقي لهول المعيش اليومي وعمق الهم الفني الذي ينوء تحت وطأته القاص والروائي العراقي، وبهذا حازت رواية ما بعد التغيير جوائز وتصدرت المنابر ولم تعد حبيسة محليتها أو رهينة أنانيتها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى