عائشة البصري تتناثر بين الأزمنة

صبحي موسى

في مجموعتها القصصية الأولى «بنات الكرز» (الدار المصرية اللبنانية)، تقدّم الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية المغربية عائشة البصري، فكرة الزمن عبر المقاربة بين الأجيال ورصد الحوار في ما بينها. في قصة «الكفن» مثلاً، التي تفتتح بها المجموعة، تنقل البصري وجهة نظر ابنة الأخ التي تتحدث عن عمتها العجوز، تلك التي لا تستأمن ضرّتها على كفنها. العمة العجوز انتظرت حتى أتتها ابنة أخيها، فأحضرت الصندوق الذي وضعت فيه كفنها، وأوصتها بأن تشرف هي على غسلها وتكفينها، لأنّ ضرتها، «تسرق أشياء الميت». وفي النهاية، تموت العمة في مستشفى بعيد، فيتمّ غسلها وتكفينها هناك، وتُدفن من دون أن تمر على بيتها، وبالتالي لا تحقق وصيتها.
في قصة «الوصية»، تشرد الساردة مع أغنية «قارئة الفنجان»، وتتخيل أن والدها الميت يؤنبها على عدم كتابة رواية عن عائلته المكونة من ثلاثة أجيال، فتقنعه أن يهدأ ويدخل إلى المغطس المعطر بالبخور. وحين يطول انتظارها أمام المغطس، تنادي عليه مرَّات، ثم تفتح الباب لتجد كلَّ شيءٍ مرتباً على حاله. من الوهلة الأولى تضعنا عائشة البصري أمام اختصار المسافة والزمن، فلا حدود لديها بين الفيزيقي والميتافيزيقي، لا حدود بين الموتى والأحياء، ولكن يمكن الحديث عن منطقة رمادية يختلط فيها عالم الوعي بعالم الغيب. منطقة تشبه الرحم كما في قصة «كوابيس جنين»، إذ نجد أنفسنا أمام جنين يتخيل نفسه طفلة تائهة في ساحة، بينما شرطي يسحبها من يدها ليسأل عن أهلها، وحين يتقدم منها رجل غريب مدعياً أنه والدها تصرخ وتهرب منه. وبعد سنوات تصبح فتاةً يغازلها شاب، ثم زوجة، ثم سيدة عجوز يخاطبها طفلٌ على أنها جدته، ثم تموت وتنطمر في التراب وحينها تستيقظ في بركة ماء فتحمد الله على أنها ما زالت في رحِم أمها.
هكذا تلعب البصري بالزمن، وكأنّ الأجيال ليست سوى حلقــــات في سلسلة دائرية. العمر ذاته ليس إلا فقرات تـــبدأ بظلمة الرحِم وتنتهي بظلمة القبر. والمسافة بين الأجـــيال ومـــراحل العمر لا تزيد عن كونها مسافة في عقل سيدة تكتـــب القصص، تنصت إلى أغنية وتشرد بعقلها في ما حـــصل ويحصل، ليصبح الموت هو بداية فقرة ونهاية أخـــرى، بينما ينتفي الميلاد من «بنات الكرز».
في قصة «حين تتوقف ساعة العقل» يتجلى التجاور في دائرية الزمان والمكان والألم الإنساني. ترى الكاتبة في محطة الباص رجلاً عجوزاً يسأل عن الحافلة التي ستجيئه فيها ابنته من الجزيرة الخضراء، ولا أحد يريد أن يجيبه، وفي النهاية تجيء الحافلة فيخبره سائقها أنه لم يمر على الجزيرة الخضراء، فيضع لومه على السائق وشركة النقل ويقرر المجيء في الأسبوع المقبل في الموعد ذاته لانتظار ابنته من جديد. تحكي الراكبة المجاورة للكاتبة في الباص تفاصيل قصة الرجل، مثلما تحكي لها عن اعتيادها لزيارة ابنتها كل أسبوع في الجزيرة الخضراء، ابنتها التي تعاني من حالة عصبية استلزمت دخولها مصحة نفسية، وفشلت والدتها في نقلها إلى مشفى قريب منها، وتسأل نفسها أمام الكاتبة إن كان مصيرها سيكون كمصير هذا العجوز، تأتي إلى المحطة لتنظر مجيئها إليها يوماً ما. اشتملت المجموعة على 19 قصة هي (الكفن، كوابيس جنين، الوصية، تكتيك، تعديل بسيط، رحلة قصيرة، بعد سنوات، حين تتوقف ساعة العقل، مايو، الجثة، لعبة أيام والألوان، غذاء فوق العُشب، عابر الشاطئ، رحلة صيد، لعنة العمر المضاف، من حكايا الرجال، الكثبان، فيلم هندي بالأبيض والأسود، يوم نسيت حذائي في الحلم).
يتضح من العناوين الاتكاء على نوعين من الثقافة اكتسبتهما الكاتبة من ممارستها الشعر والرسم. النوع الأول هو السريالية التي اعتمدتها كتكنيك في سرد بعض القصص، كما في «كوابيس جنين»، و «الجثة» التي تدور حول امرأة استيقظت من نومها لتجد إلى جوارها جثة.
وبعد تصورات كثيرة وأطياف ذكريات عدة، تعرف أنها جثة زوجها، الذي مات مقتولاً، لكننا لا نعرف إن كانت هي التي قتلته أم أن العناية الإلهية هي التي خلَّصتها منه. وفي قصة «بعد سنوات»، حوار بين رجل وامرأة التقيا في حديقة، لكن السرد يوحي أننا أمام زوجين، وأن أحدهما مات قبل الآخر، وأن السيدة ربما فكَّرت في التخلص من ملاحقته لها بإعطائه عنواناً خاطئاً، لكنه مع ذلك تمكَّن من الوصول إليها. النوع الآخر يتمثل في ثقافة اللون، التي تسربت إلى أكثر من قصة، في مقدمها «لعبة الأيام والألوان»، إذ تعطي الكاتبة لكل يومٍ في الأسبوع لوناً معيناً، يعكس انطباعها النفسي عنه. فالأحمر ليوم الاثنين، والأصفر للثلثاء، والأخضر للأربعاء، والخميس رمادي، والجمعة أبيض، والسبت أزرق، والأحد أسود. وفي قصة «غداء فوق العشب»، نجد الكاتبة وقد صارت إحدى شخصيات لوحة للفنان الفرنسي كلود مونيه. لا يتوقف الأمر عند السريالية وثقافة اللون كتيمتين مضافتين إلى السرد، فثمة خيال قوي ساعد الكاتبة على تخيل تجاور العوالم والأزمنة، وثمة لغة مكتوبة بتكثيف واضح، ومجاز شعري في كثير من الجمل، ما يجعل هذه المجموعة تتمتع بخبرة فنية عالية، على رغم أنها الأولى لعائشة البصري في مجال القصة القصيرة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى