المترجم العراقي علي حاكم صالح: من ينوي استحضار «مذاق اللغة للنص الأصلي» ينتج ترجمة ميْتة

المهدي مستقيم

من أجل البحث والنقاش في موضوع الترجمة، والتفصيل في الإشكالات التي تطرحها عالميا وعربيا على وجه الخصوص، واستنطاق إمكانات إسهامها في تعميق معرفتنا بذواتنا أولا، وبالآخر ثانيا، ثم باستدراك ما فاتنا ثالثا. كان لنا الحوار التالي مع المترجم والأكاديمي العراقي علي حاكم صالح، الذي يعمل استاذا في قسم الفلسفة/ جامعة البصرة.

■ ماذا تعني لك عملية الترجمة؟
□ يتغير معناها عَبر الزمن، بداية كانت رغبة فردية، ثم صارت عملاً ثقافياً وفكرياً؛ هذا معنى. وثمة شيء آخر يتلاحم معه، إحساسنا بواجب. وهو أنَّ على كلِّ باحث عربي يجيد لغة أجنبية أن يترجم.
فافتقارنا إلى العمل المؤسسي، والمشروعات المنظمة، يلقي على الأستاذ والباحث العربي مهمة ليست يسيرة، وغير نافعة مادياً، ولكنها تبقى واجباً وهو أن يترجم. في الحقيقة هذا هو بالضبط كان ومازال الدافع الأساسي إلى الترجمة. ثمة كسل، مع الاعتذار عن استعمال هذه المفردة، يطبق على كثير من الباحثين، ممن يجيدون لغة، أو لغات أجنبية، ولكنهم يظهرون كسلاً غير مبرر في هذا الجانب. وثمة معنى آخر أيضاً (ولكنه ليس تقريرياً كسابقيه): فإن تترجم من لغة أجنبية يعني أن تشارك الكاتب كتابته.
■ هل يمكن أن نقول إن الترجمة لا تقتصر على المرور بين ثنايا لغتين، وإنما بين ثقافتين، أو موسوعتين، أي أنها لا تركز فقط على القواعد اللغوية البحتة، وإنما أيضا على عناصر ثقافية، بالمعنى الأوسع للعبارة؟
□ كل ترجمة، كما أحسب، تندرج في البُعد الثقافي؛ فهي جسر بين لغتين، أي بين ثقافتين. وما من ترجمة، بالمعنى الدقيق للترجمة، تركز فقط على القواعد اللغوية البحتة، وإن وجدت، فإنها تصبح حينذاك مجرد تصوير شكلي، إن صح التعبير. إن لغة كل أمة حاملة لتراثها كله، ومعبرة عنه، والنصّ الذي يولد فيها، في اللغة، لا يمكن أن يُفهم إلاّ في ضوء تلك الثقافة.
■ إذا تم التسليم بأن كل مترجم هو مؤول، فهل هذا يعني بالضرورة أن كل مؤول هو مترجم؟
□ المؤوِّل مترجم، ولكن داخل ثقافته أو نصِّه الثقافي. أمّا المترجم، فبحكم عمله نفسه، مؤوّل ضرورة. صحيح أنّ المترجم يتبع الأعراف السائدة في لغته، لاسيما المعجمية السائدة في حقبة معينة في ترجمة المفهوم والمصطلح، ولكنّ فعل الترجمة نفسه هو طريق يسلكه المترجم لنقل رسالة، وفي الطريق تتغير الرسالة، وهذا التغيير هو تأويل.
■ هل تهدف الترجمة إلى توجيه القارئ نحو فهم العالم اللغوي والثقافي للنص الأصلي، أم أنها تحول النص الأصلي لتجعله مقبولا لدى القارئ في لغة وثقافة النص الهدف؟
□ كلاهما قد يحدثان، وهذا يعتمد على براعة المترجم أولاً، وكفاءة المتلقي ثانياً؛ فما قد يغيب عن متلق، قد يحضر عند آخر، وطبيعة النصّ المصدر نفسه ثالثاً؛ أعني الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه. ولكن في جميع الأحوال، لا شك في أن عالم لغة النص المصدر سوف يتلاشى، ويحضر عالمه الثقافي.
■ قال ماركس عن الترجمة الفرنسية التي خصها جوزيف روا لكتاب الرأسمال، إنها وإن لم تكن نسخة طبق الأصل للنص الألماني، فهي تناسب الفكر الفرنسي وقت ظهورها، وعنى بذلك أنها لن تلائمه في وقت آخر. هل هذا يعني أن الترجمة معرضة للشيخوخة؟ وأن المترجمــــــين، حتى دون سابق نية، وحتى عندما يريدون إمتاعنا بمذاق اللغة والفترة التاريخية للنص الأصلي، يعصرنون النص الأصلي؟
□ المترجم ابن عصره لا ريب. وشأنه شأن الكاتب، فهو أيضاً رهين الأعراف اللغوية السائدة، والأساليب المقبولة؛ أو بكلمة أخرى: المترجم يحمل روح لغة عصره. وكل من ينوي استحضار «مذاق اللغة … للنص الأصلي» سوف ينتج ترجمة ميْتة. وأعني بذلك أنه لا يمكن ترجمة أرسطو اليوم بالعربية السائدة في القرن الثالث الهجري، ولا يمكن ترجمة هيغل بلغتنا التراثية كما هو حاصل اليوم؛ فتلك ترجمة ميتة.
■ يقول شلاير ماخر «إما أن يترك المترجم المؤلف لحاله أكثر ما يمكن، ويجلب القارئ نحوه، وإما أن يترك القارئ لحاله أكثر ما يمكن، ويجلب المؤلف نحوه.
والسبيلان على قدر من الاختلاف حتى أنه لو اتبع أحدهما، فينبغي المضي فيه إلى آخره بأكثر ما يمكن من الصرامة، أما إذا حاولنا اتباع كليهما في الآن نفسه فلا يمكن أن نحصل إلا على نتائج على غاية من الشك، مع المجازفة بفقدان كامل سواء للمؤلف أو للقارئ». ما تعليقك؟
□ إن كنت فهمتُ حقاً معنى هذا الكلام، أظن أنَّ المترجم ينبغي أن ينصب تركيزه، أساساً، على طبيعة اللغة السائدة، التي يعيش فيها، لا على المؤلف ولا على القارئ، فهذان كيانان سيكونان، في عملية الترجمة، مجردين. إن المترجم يكيّف لغة المؤلف حسب لغته، أعني لغة قومه آنذاك. بتعبير أدق: أن يجلبهما معاً إلى هذه اللغة المفهومة.
■ في كثير من الأحيان يضطر المترجم إلى الإبقاء على عبارة ما من النص الأصلي أو خسارتها أو تعويضها، نتيجة عسر ترجمتها، أو عدم قابليتها للترجمة، فهل يمكن أن نرجع هذا الإبقاء أو الخسارة أو التعويض إلى أسماه أمبرتو إيكو بـ»عملية تفاوض المترجم مع النص»؟
□ بالفعل الترجمة «عملية تفاوض مع النصّ»، وهذا ما كنت أعنيه بجوابي عن السؤال السابق. ومسألة إسقاط عبارة متعمداً، أو مكرهاً، فهذه تتحكم فيها أحياناً كثيرة منطلقات أيديولوجية بعضها مباشر وصريح ويعيها المترجم جيداً، أو إنها تفعل فعلها فيه من دون أن يعيها. والقول بالتعويض فهو تعريف آخر للترجمة. ولعملية التفاوض ذرى تبلغها، أو تظهر فيها: حالة استعصاء ترجمة تعبير، حالة عنف يمارسه المترجم على لغته، أعني أعرافها، من أجل تطويعها هي نفسها للمعنى الجديد. وهذا بحد ذاته يسهم في تطوير اللغة التي يُترجم إليها، والعربية اليوم هي ليست نفسها عربية طه حسين، ولا شك في أن الترجمة أسهمت في هذا التغيير.
■ علي حاكم صالح وحسن ناظم اسمان بارزان في الساحة الثقافية العربية، بالنظر إلى منجزهما الترجمي الذي يدل على حنكة وكفاءة على مستوى الكتابة والإنجاز، أغنيا من خلالهما الخزانة العربية بأمهات الكتب في الفلسفة وفي النقد الأدبي. عرفت رفقة حسن ناظم باهتمامكما منذ وقت مبكر بالنص الغاداميري، حيث نقلتما إلى لغة الضاد كتابه العميق «حقيقة ومنهج» ثم: «بداية الفلسفة» و«طرق هايدغر» و«التلمذة الفلسفية»، وفي الأيام القريبة ستصدر لكما ترجمة لكتاب غادامير الخامس حول الشاعر بول تسيلان، لما كل هذا الاهتمام بالفلسفة الألمانية المعاصرة عامة، وبغادامير خاصة، هل يمكن أن نعتبر ترجمة النص الفلسفي الألماني المعاصر بمثابة أداة قد تساعدنا على تشييد حداثتنا الأصيلة، ومن ثم انفصالنا عن موقف التقليد القائم على منطق الاتصال والاستمرار والدوام والتناهي؟ وهل يمكن للنص الغاداميري أن يساعدنا على ابتكار فؤوس نضرب بها البحور المتجمدة في أعماقنا لتتجانس أمواجها مع أمواج بحور الضفة الأخرى؟
□ بدأنا (حسن وأنا) الترجمة بكتابين متكاملين يخوضان في نظرية، أو نظريات، القراءة والتلقي. وفيهما كان غادامير حاضراً، وإن لم يحتويا نصّاً خاصاً به. فكانت عنايتنا به من هذه الجهة، ولكن غادامير أوسع من هذه النظرية، فتوسعت ترجمتنا له. إن مسائل المعنى، والفهم، والتأويل، والنصّ، والقارئ، وغير ذلك، جميعها اليوم من مشاغل الفكر الغربي، والعربي كذلك. وعندما أنظر اليوم في ترجماتنا يبدو لي أن ثمة شيئاً آخر كان يقع خارج النصّ وعملية الترجمة والكتابة بأسرها؛ يقع في العالم الاجتماعي السياسي، الذي كنّا فيه. وأقول بعبارة واضحـــــة إنّ انشـــــغالنا بهذه الترجمات كان (وربما من دون شعور بذلك) أشبه بعملية ترميم اجتماعي ســياسي لم يكن يؤمن بغير المعنى الواحد. ولم يكن ذلك هرباً، بل كان تعويضاً (التعويض مرة أخرى). أما مسألة أهمية الفلسفة الألمانية لحداثتنا، فهذا لا شك فيه، مثلما لا شك في أهمية جميع مصادر الفلسفة الإنسانية برمتها.
■ كيف استقبل الفكر العربي نصوص غادامير المنقولة إلى اللغة العربية؟
□ في العقود الثلاثة الماضية عكف بعض الباحثين العرب على التفكر في الدرس الغاداميري، الذي يمتح طاقته، حسب تعبير غادمير نفسه، من هيدغر، الفيلسوف المعاصر الأبرز. ويبدو لي أن غادامير من هذا الجانب، منح هيدغر، في العربية، بُعداً آخر يختلف عن البُعد الذي كان حاضراً فيه بالعربية. كان هيدغر جزءاً من الوجودية في الكتابة العربية، جزءاً ملحقاً بسارتر، رغم تقدمه عليه، وأولويته. مع غادامير، صار لهيدغر، وهذه مفارقة، حضور آخر مكمِّل لحضوره السابق. ميزة نصّ غادامير أنه يعلِّم أشياء كثيرة؛ ولعلّ أهم ما يعلّمه هو تكريسه لفكرة أن الحقيقة تتمخض عن الحوار. وربما كان لهذا المفهوم أهميته في ثقافتنا العربية، التي تلهج بالحوار. ولكن يبقى غادامير، مؤرخاً، فيلسوفاً، ضمن التراث الألماني. وكتابه «حقيقة ومنهج» هو تفلسف ضمن اللغة والتراث الألمانيين. ويعلمنا غادامير التواضع، كيف يكون الفيلسوف الكبير متواضعاً، لا دعياً ولا متنطعاً، ولا قابضاً على الحقيقة كاملة. وسيرته الفلسفية «التلمذة الفلسفية» شاهد على ذلك.
■ ما السبب الذي يقف وراء شح استقبال الساحة الثقافية والفكرية في العالم العربي الاسلامي للفلسفة الألمانية المعاصرة؟
□ السبب يكمن في أن مواردنا الثقافية الغربية تحددت باللغات التي سادت، بسبب الاستعمار، في عالمنا العربي: فكانت الإنكليزية في مشرق الوطن العربي، والفرنسية في مغربه. كما أن أغلب الباحثين والأساتذة العرب تحصّلوا علومهم في جامعات هاتين اللغتين. كان هناك اهتمام بالفكر الألماني، ولكن اقتصر على جانب واحد هو الجانب الذي يبرِّز الفكر الأيديولوجي: الماركسيون من جهة والقوميون من جهة أخرى. لا أظن أن مفكراً غربياً حاز انتشاراً في عالمنا العربي في القرن العشرين مثل كارل ماركس، وهو ألماني بالطبع. ولكن حالة ماركس تمثل مفارقة، فكل ما ترجم له كان عن لغات أخرى، فضلاً عن شيء أهم هو أن ماركس بدا، في الأيديولوجية الماركسية العربية، سوفييتياً وليس ألمانياً، أو لنقل بتعبير أدق أنه لم يعد ينتمي إلى لغة معينة، لأن فكره حاز قبولاً عالمياً، أو عابراً للقوميات. أما التناول القومي، فكان ربما لتشابه الظروف التي مرّ بها العرب والألمان كل حسب زمانه، حتى أن أحد الأيديولوجيين القوميين في عراق أربعينيات القرن العشرين، دعا إلى إدخال اللغة الألمانية في المناهج الدراسية الأولية.
أما التيارات الفلسفية التي شاعت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرزها الوجودية، فكانت بنسختها الفرنسية، السارترية على نحو خاص، لأنها أدبية، أو حضرت بصورتها الأدبية. وما نقل عن الألمانية، فلقد نقل بما نسميه بالترجمات الحفيدة، أي الترجمات غير المباشرة. واليوم نشهد انفتاحاً على النصّ الفلسفي الألماني، ولكنَّ جزءاً ليس قليلاً مما ترجم يكاد يكون مخيباً، بسبب تشتته وغموضه.
■ ما موقفك من الطرح الأنغلوساكسوني الذي يركن إلى الدفاع عن نظرية منهجية تنطلق من كون الفلسفة الألمانية مستحيلة الترجمة، خصوصا نصوص فيخته، هيغل، هامان، دلتاي، هايدغر وغادامير؟ وهل يعني ذلك أن الفلسفة الألمانية لم تنجح في تحقيق مطلب الكونية؟
□ الكونية تتحقق بانتشار اللغة، وهذا الانتشار ليس سببه لغوياً، بل استعماريا، سياسيا، اقتصاديا، أي إن السلطة، بمعناها الواسع، لها الدور المؤثر هنا. من حيث المبدأ لا أظن أن هناك فكراً لا يمكن ترجمته، ومع ذلك يمكن القول إن الوضوح، الذي اتسمت به الفلسفة الأنغلوساكسونية، وهو وضوح كان هدفاً لهذه الفلسفة، حاز نوعاً من القبول لدى بعض المفكرين العرب. فالفلسفات التحليلية واللغوية، لاقت في وقت من الأوقات حضوراً طيباً، فضلاً عن العناية بفلسفة العلم، وهذه إن كانت أصولها الأولى ألمانية إلا أنها نقلت بصورتها الأنغلوساكسونية. وثم شاعت البنيوية، وهذه موضة فرنسية بامتياز، واستنفدت منّا نحن العرب زمناً، لم يكن من دون أسباب؛ وهذا حديث آخر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى