الفلسطينيّ زياد خداش يسرد فانتازيا الرعب الاحتلاليّ

عمر شبانة

بين المتخيّل والواقعيّ، وشائج تجعل كلاً منهما شبيه الآخر، أو قابلاً ليكون هو الآخر ذاته، فضلاً عن أن كلاً منهما يغتني بالآخر، وربّما ينهل منه. هذا ما يبدو لنا متجسّداً في العلاقة بين الواقعيّ والمتخيّل، كما تظهر في قصص ونصوص الكاتب الفلسطينيّ زياد خدّاش عموماً، وفي نصوص كتابه الجديد «أسباب رائعة للبكاء» على نحو خاص، حيث يصعب الفصل أو التمييز تماماً بين العالَمين، الواقعيّ والمتخيّل، وحيث درجة التخييل التي تبلغ حدود الفانتازيا والعبث، تبدو شديدة الواقعيّة، كما أن أيّ حادث واقعيّ يبدو شديد الغرابة، وغير قابل للتصديق.
تنتمي كتابة خداش (مواليد القدس 1964)، إلى الكتابة الفلسطينيّة الجديدة، لجهة النمط والأسلوب والهموم والقدرة على الإدهاش، جديدة في تناول وسرد «الحكاية» الفلسطينية، أو «رواية» الإنسان الفلسطينيّ، من دون التخلّي عن الفكرة الأساسية في هذه الرواية/ الحكاية، الفكرة القائمة على استحضار صور الاحتلال وممارساته، في كل حادث أو حديث في حياة الفلسطينيّين، حيث الوجود الهمجيّ النفّاذ لهذا الاحتلال وجنوده، حتّى في الهواء الفلسطينيّ. الكتابة هنا، ليس فيها أيّ فاصل حقيقيّ بين الهمّ الخاصّ/ الفرديّ والهمّ الوطنيّ العامّ/ الجمعيّ، على رغم انطلاقها من الخاص، والذاتيّ أحياناً.
في كتابه القصصيّ هذا (الدار الأهليّة/ عمّان، والحائز على جائزة القصة القصيرة- الكويت)، يذهب خدّاش إلى أقصى حدود التخييل، حتّى إنه يجعل من ذاته هو شخصاً آخر، يستخدم ما يسمّى «كاتب ظلّ» لكتابة قصصه ونصوصه، أو نراه، تحت ضغط ظروف صعبة، ينتحل شخصية كاتب أردنيّ معروف بسخريته، محمّد طمّليه، هذا عدا كونه «بطلاً» دائماً لنصوصه وحوادثها ذات الصبغة الغرائبية، ما يجعل القارئ يتشكّك في قدرة كاتب واحد على أن يكون حاضراً في هؤلاء الأشخاص جميعاً، كما هي حال «بطل» قصصه، القصص المخادعة، خدعة لذيذة وعميقة ومعبّرة.

تخييل الواقعيّ
في نصوص هذا الكتاب، وهي إحدى وثلاثون قصة، متفاوتة في الطول، الكثير من الهموم والقضايا والتفاصيل، الموزّعة ما بين الاجتماعي والوطني والثقافيّ، ولكن الإنسانيّ والوجوديّ يظلّان في قلب كلّ منها، وتتداخل الأبعاد كلها مع العامل السيكولوجي، وبحضور مميز لعنصر الشهوة الإيروتيكية الغامرة، وكثيراً ما تختلط هذه الأبعاد جميعاً في قصة واحدة.
لعلّ من بين العوالم الأشد بروزاً وتأثيراً في عالم خداش، عالَم الحياة الثقافية بمفرداتها ومشاهدها المختلفة، مشاهد مأخوذة من زاوية الراوي/ البطل، الذي قد يكون هو نفسه المؤلف، في حياته ويوميّاته، في ذكرياته وتأمّلاته، فمن خلاله، ومن موقعه في الحياة التعليميّة، حيث يعمل واقعيّاً في «تعليم الكتابة الإبداعية»، ومن خلال «حياة المقاهي»، نطلّ على حياة المجتمع بشرائحه المختلفة.
وبوصفه بطلاً لقصصه، يظهر زياد في مواقف شديدة الغرابة، لكن من الطبيعيّ أن يناديه جنود الاحتلال باسمه، وأن يحتجزوه أو ينكّلوا به، في مشاهد تنطوي على سخرية لاذعة، بقدر ما تنطوي على رغبة الكاتب في إبراز همجية هذا العدوّ، كما هي الحال في مشهد لجنود الاحتلال والعبث بالكتب في بيوت المخيّم، أو جنود بلا لغة ينبطحون ويصوبون بنادقهم نحوه، وجرافات تخلع الشجر. وقد تأتي هذه الهمجية والعدوانية، في مقابل ضعف وهزال السلطة الفلسطينية وعناصرها الأمنية. بل في زمن التحوّل «المسخ»، من صورة «الفدائيّ» العائد إلى رام الله، الذي سنراه بعد عشرين عاماً «بائع ذرة» بائس.
ومن الطبيعيّ أن ترى «شخص اسمه مفيد»، وهو رجل غير مرئي، وبالعكس من اسمه بلا فائدة أو أهمية «سوى لمعرفة الوقت بناء على مروره الخامسة مساء»، والأهمّ أنه «كان يشبه شارع الحسبة (ووو) كان رام الله»، أو ترى المرأة التي «قد تكون تحوّلت إلى زقاق في المدينة»، وقد يضع نفسه في أجواء الحكاية التاريخية عن السبي ونبوخذ نصّر، فنرى زياد ضمن قومه، ومخطط يبوس الجديد، مَلكي صادق ينتظر إبراهيم الذي في الطريق إلى مصر.
وتظهر معاناة الأطفال في صور شتّى، أقساها ربّما حالة التلميذ عبد الرحمن: بوجهه المحترق من قصف الطيران في غزة، يتألم عندما يضحك، يريد أن يكتب ويرسم، بل نراه يرقص على عزف غيتار غير مرئيّ، وفي غمرة معاناته لا ينسى «لطف الممرضات اليهوديات في مستشفى هداسا»، ومراعاة لحالته هذه، يتعاطف معه طلاب الصف والمعلم و «يتوقّفون عن الضحك». ذلك كله في مشهدية تصويرية شديدة الإيلام.
وعلى نحو شديد السخرية أيضاً، نرى الكاتب يتقمّص شخصية «رجل غريب» يجد نفسه في موقف غريب، فهو الذي يحمي الرجال الثمانينيّين، أو يدلّ الضائع منهم، يجد أنه متّهم بملاحقة رجل عجوز، حتى أن هذا العجوز يقوده ويوصله إلى مخفر شرطة، ويتّهمه بأنه يريد سرقته، فيتم توقيفه وسجنه. وضمن لوثة الحياة المادية والاستهلاكية، تبلغ الأمور حدّ نشوء سوبرماركت لبيع الوجوه، زمن شراء الوجوه وتبديلها، والعيون والأنوف، فتصبح القُبلات بين الرجل وبين زوجته تذكّرهما بشفاه عرفها كلّ منهما سابقاً، فيما هي تتذكر شفاه رجل عرفته قبل زواجها، ويضيعان في قبلات «شفاه مسمومة».
أما حكاية الانتماء للأرض وتوابعها، فتتجسّد في صورة العلاقة مع البرتقال، في «يد برتقالية»، حيث يستعير القاصّ يد جدّه ليصافح الناسَ بها، يحمل يد الجد ويتنقّل بها، طعمها طعم بحر ورمل وسمك، وحين يجرح إصبعه ينزّ منه «عصير البرتقال». لكن هذا الانتماء ليس مطلقاً تماماً، فثمة صور من الكراهية للذات التي تنقسم إلى شخصين، تظهر في الجولة اليومية في الوطن، وتختفي حين يكون هذا الشخص خارج الوطن. ويحضر الإحساس المرير بالزمن، في قصة صديقين في التسعينات من عمرهما، مصابَين بسرطان في العظام، لكنّهما في المكالمات بينهما يصرّان على الاطمئنان بخصوص «الالتهاب في العظام» وليس السرطان.
في النهاية، نحن حيال عوالم غرائبية، حتى حدود العبث والكابوسية، لكنها عوالم واقعية، هي نتاج حياة «غير طبيعية»، على رغم أنها تبدو مألوفة، لكثرة تكرارها. عوالم يعبّر عنها هروب الكاتب الحقيقي وراء «كاتب الظل»، ثم تخلي هذا الأخير، وكشفه «الأقنعة» التي يتخفّى الكتّاب وراها. ولماذا هذه «الحيلة» في الكتابة؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى