النقد الأدبي حلقة كئيبة في المشهد الثقافي المغربي

يعيش الروائي المغربي مصطفى الحمداوي في أوتريخت (وسط هولندا) منذ ما يزيد عن عشرين عاما، لكن ارتباطه بملاعب الصبا والشباب في منطقة الدريوش (شمال شرق المغرب) يتبدّى في رواياته المنشورة، التي حاز عدد منها جوائز عربية وعالمية.

ويقول الحمداوي إن الكاتب عندما يكتب فإنه ينطلق من بيئته، يستحضر الإلهام من المكان الذي يحضنه، ومن الشخوص الذين يعيشون في هذا المكان، معترفا بأنه “مدين لهذه المنطقة بأشياء كثيرة وعلى مستويات متعددة”.

ولمنطقة الشرق المغربي طابع خاص وتقاليد خاصة أيضا وموروث حضاري وثقافي بالغ الثراء لا يمكن إغفاله. وهذه المعطيات كلها، كما يقر الروائي المغربي، تجعل من هذه الجهة منطقة إبداع بامتياز وفي كل المجالات، والدليل أنها أعطت للمشهد الثقافي والفني المغربي الكثير من الأسماء المتميزة.
المكان والكتابة

لأن المكان يؤثر تأثيرا واضحا في إبداع أي كاتب، فقد كان للهجرة دور حاسم في إغناء تجربة الحمداوي الأدبية. فالغربة، كما يراها الكاتب، تمنحنا فرصة الاحتكاك بثقافات متنوعة ومختلفة بل تجعلنا نعيش العالم كله ونحن في مكان واحد، وخاصة في بلد مثل هولندا التي تحتضن كل الجنسيات تقريبا وكل الإثنيات والعقائد والثقافات.

ولا يرى الحمداوي أن الكاتب يمكنه أن ينجح في المهجر دون الاتكاء على ثراء تجاربه الخاصة التي تعكس روح الانتماء إلى بلده ووطنه وحضارته الضاربة في عمق التاريخ. ويقول “عندما نهجر الوطن فإننا نغادر الديار والأمكنة فيه، ولكننا نأخذ هذا الوطن في أعماقنا وفي ذاكرتنا وفي كل شيء فينا. الوطن هو ذلك الشيء الذي تشعر في النهاية أنه أنت وأنك دونه لن تكون أبدا أنت”.

ووفق هذا المنطق يمكن أن نسقط هذا المفهوم على الكتابة. ذلك أن الوطن، بحسب رؤية الحمداوي، ينبغي أن يكون موجودا بصيغة ما في كل كتاباتنا، هكذا ليتحقق للنص الروائي النجاح والأصالة اللذان نرغب فيهما.

والواضح أنه باستعراض الإنتاجات الروائية لمصطفى الحمداوي، يتبيّن أن جل أحداثها تمتح من الغربة ومن التعامل مع الآخر الموجود هو أيضا في الغربة. ولكن الوطن يفرض وجوده في الوجدان، ويتضح ذلك من خلال الكتابة التي نسترجع فيها بلدنا وبيئتنا ومحيطنا والجذور التي ننتمي إليها، بحسب ما يؤكد الروائي.

لكن لماذا نكتب؟ سؤال يعد من أكثر الأسئلة التي تطارد الكاتب دائما، وهو “سؤال لا ينبغي أن تكون له إجابة محددة ومقنعة”، كما يقول الحمداوي مؤلف “غواية الجسد”.

ولهذا السبب تأتي معظم الأجوبة عن هذا السؤال عبارة عن أجوبة فلسفية ووجودية مغرقة في الابتعاد عن واقع فعل الكتابة، لكن للحمداوي له رأي آخر. إذ يقول “في ما يخصني أكتب لأجل أن أصنع المتعة والفرح والانشراح، فنحن عندما نكتب المآسي مثلا نكتبها ليقرأها الناس ولكن قبل ذلك ليستمتعوا بقراءة ما نكتب. لن نكون أبدا في مستوى ما نكتب إذا لم نجعل القارئ يستمتع بما يقرأ”.

ويكتب مصطفى الحمداوي لكل شخص يجد في نفسه صفة “قارئ”، ذلك القارئ الذي يتماهى مع نصوصه الروائية وغير الروائية، والذي يجد في ما يكتب شيئا يمنحه المتعة وقراءة العالم والوجود من زوايا مختلفة، ويقول “في كتاباتي أحاول دائما أن أعقد شراكة استراتيجية مع القارئ. لأن القارئ هو المعادل الصحيح والصريح الذي يمنح المشروعية للكاتب”.

ولذلك لا يؤمن ابن مدينة الدريوش بمقولة “أكتب لنفسي لأستمتع بالكتابة”، ويوضح أن منبع الاستمتاع بالكتابة يأتي من “أننا نعلم أو على الأقل نتوقع أن قارئا ما سيحتفل بكتاباتنا وستعجبه هذه الكتابة وسيبجّلها بطريقته الخاصة التي لا نعرفها”.

ومن هذا المنطلق يلح مؤلف رواية “الشيطان والورد” على ضرورة أن يضع الكاتب في حسبانه أنه يكتب لقارئ حر ونبيه وذكي “لكي لا نسقط في الاستهتار بقدرات القارئ”.
على مقاس الجوائز

يؤكد مصطفى الحمداوي أنه لا يكتب لمجرد التصدي لظاهرة معيّنة أو للمشاركة في جائزة ما إنما يكتب عندما تقترح الأحداث نفسها عليه، بل أكثر من ذلك، يكتب عندما تفرض هذه الأحداث نفسها عليه بإلحاح فظيع، وغالبا ما يحدث ذلك في لحظة مباغتة وغير متوقعة. فهو لا يلهث خلف الموضوع. ولا يعتقد أن ذلك هو المطلوب في مجال الإبداع، لأن الإبداع هو أن تكتب بأصالة وبالطريقة التي تزرع الدهشة في نفس القارئ.

وحين سألناه عن مشاركاته في مسابقات أدبية وحصوله على جوائز منها، قال “طبعا أشارك في المسابقات الأدبية ولكن لا أفعل ذلك بنصوص أفصلها عن جسد الجائزة المطروحة للتنافس. أنا أكتب دائما وباستمرار بغض النظر عن الجوائز والنشر. ونصوصي الروائية وغير الروائية التي لم تنشر هي بالتأكيد الأكثر من حيث العدد من النصوص المنشورة فعلا، وعندما أصادف إعلانا عن مسابقة فإنني أشارك بالنص الذي أراه يتوافق من حيث الشكل والجنس الأدبي والشروط المطلوبة مع الجائزة المعروضة”.
وفاز مصطفى الحمداوي بجائزة كتارا في دورتها الأخيرة عن صنف الروايات غير المنشورة. وتعد هذه الجائزة واحدة من أكبر الجوائز العربية في مجال الرواية.

ويقول مؤلف رواية “حب دافئ تحت الثلج” إنه أدرك لحظة الإعلان عن تتويجه أن المجهود الكبير والمتواصل الذي بذله منذ تورطه في فعل الكتابة يثمر أخيرا ويعطي النتائج التي كان يرغب فيها. ويوضح الحمداوي نحن في النهاية نكتب لكي نقرأ على نطاق أوسع ولكي تصل أعمالنا الروائية إلى أكبر عدد ممكن من القراء، ولا يحدث ذلك غالبا إلا بعد نيل الكاتب لجائزة، خصوصا في ظل إكراهات قلة الاهتمام الإعلامي والنقدي بالكتاب الجدد والغياب شبه التام للتعاطي مع النصوص الروائية نقديا بالجدية المطلوبة في حدها الأدنى.

ويتابع الحمداوي “النقد في المغرب قد يكون الحلقة الكئيبة في المشهد الثقافي المغربي، والرواية بالخصوص معنية أكثر من غيرها بهذا البؤس الباعث على اليأس”.

ويرصد مؤلف مونودراما “الرحلة الأخيرة” مفارقة “غريبة” تتمثل في أن النصوص النقدية المغربية تتناول نصوصا روائية عربية وتنأى بنفسها عن النصوص المغربية. وفي الحالات الأكثر شيوعا يشتغل النقد على المنهجيات وعلى المصطلحات وعلى المفاهيم في النقد أكثر من اشتغاله على محاورة النصوص الروائية المغربية.

ويدلي الحمداوي بهذه الملاحظات مبديا “الكثير من التحفظ وعدم التعميم” تجنّبا لظلم التجارب التي أنصفت المنجز الروائي والأدبي المغربي وأعطته حقه من الاهتمام وتناولته مهنيّا بالنقد والتحليل.

وفي مقابل ذلك يرى مؤلف كتاب “غابرييل غارسيا ماركيز في دائرة الواقعية السحرية” أن النشر في المغرب عرف تطورا ملحوظا، حيث أن كتبا ذات جودة عالية باتت تلقى حظها في النشر. ويلاحظ العدد المتزايد للكتب التي تطبع داخل المغرب و”لكن رغم هذه الطفرة النوعية التي ساهمت فيها بقوة وزارة الثقافة وأصحاب دور النشر أنفسهم، إلا أننا نواجه معوقات فيما يخص التوزيع ونشر الكتاب المغربي على نطاق واسع”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى