كتابة النقد أسهل كثيرا من الكتابة الإبداعية

حنان عقيل

تجمع الكاتبة الليبية فاطمة الحاجي في منجزها بين الكتابات النقدية ونظيرتها الإبداعية. في روايتها الأولى المعنونة بـ”صراخ الطابق السفلي” تتناول الحاجي تجربة الليبيين مع حرب تشاد وعنها تقول “تناولت الرواية فترة الثمانينات من القرن العشرين التي شهدت تغيرات كبيرة في المجتمع الليبي؛ منها التحول الاشتراكي، وحرب تشاد، والغارة الأميركية على ليبيا، والشنق، والاختفاء، والاغتصاب. وكل هذه الأحداث لم يتحدث عنها الكثيرون، وبقيت طي الكتمان”.
مسار الوجود

توضح الحاجي أن الرواية تُقدّم معاناة الشعب الليبي وملاحمه للقارئ وخاصة الثمن الغالي لحرب تشاد التي هزت المجتمع الليبي، وهي ليست تأريخا فقط لهذه الحرب، ولكنها علاقات متشابكة بين فئات المجتمع الجامعي وعلاقات مترابطة ومتقطعة بين أصوات فاعلة على مدارات الأقدار التي صنعت تلك الفترة، لذا تقدم نهايات مفتوحة على مدارج الوجود وإمكانية لإطلاق سراح خيال القارئ ليتمثل تلك الحقبة الهامة التي شكَّلت الكثير من دهشتها وصحوتها.

ترى الحاجي أن الرواية الجيدة هي تمعّن في مسار الوجود، وتعبير عن الحياة بعد أن ضاق الشعر عن استيعاب هموم الإنسان وعن تمدد تفاصيل هذه الهموم. وكل إنسان له رواية ليسردها بغض النظر عن تفاوت القدرة على إتقان فن السرد، مُبينة أن علاقتها بالرواية ليست طارئة، فقد كتبت الشعر في بداياتها وكتبت القصيدة المتداخلة مع السرد والقصة القصيرة، ثم تفرغت للدراسة العليا واللغات الأجنبية وما يتطلبه اتقان لغة أجنبية من وقت أثَّر على مسيرتها في فن الكتابة. ثم تفرغت للدراسات النقدية المعمقة، وبعد كل هذه التجارب الغنية أرادت أن توقع على رصيف الحياة برواية “صراخ الطابق السفلي”، فالرواية هي سر البوح والإفصاح عن تجارب حياتية.

تجمع الحاجي بين عملَيْها النقدي والإبداعي، وتلفت إلى أن العمل النقدي والرواية عالمان مختلفان؛ كل عالم له متطلباته وأدواته التي تختلف كل الاختلاف عن الأخرى. العمل النقدي أسهل من الكتابة الإبداعية بمراحل، حسب رأيها، خصوصًا وأن كتابة رواية جيدة ليست بالأمر الهين فهي بحث وحفر في خلجات الإنسان وفي مجالات علمية متعددة منها علم النفس والتاريخ واللغة والفلسفة وعلم الجمال وغيرها من المعارف المتنوعة لبناء وخلق عالم تخييلي ممتع ودال.

أما العمل النقدي فهو عمل استدلالي ومقاربة تحليلية موادها الأولية موجودة في العمل الأدبي الخاضع للتحليل، وما على الناقد إلا الغوص في هذا العمل واستنطاقه حسب مخزونه المعرفي وحسب إلمامه بأدواته المنتجة لقراءة جديدة لتجربة العمل الأدبي قراءة تكشف خبايا النص وتمفصلاته التي قد لا يدركها القارئ العادي. فالعمل الأول (الكتابة الإبداعية) خلق، والثاني (العمل النقدي) اكتشاف.
تشغل الحاجي عضوية تحكيم اللجنة العالمية للرواية العربية (البوكر) وتشير إلى أن تلك التجربة أغنت قراءاتها في الرواية العربية واتسعت دائرة معارفها بها، وتجارب الرواية العربية المرشحة هذا العام لنيل الجائزة متنوعة ومستوياتها مختلفة، رافضة الإفصاح عن أي تفاصيل أخرى إلى حين الإعلان عن النتيجة النهائية للمسابقة.
التقدم الثقافي

ترى الحاجي أن الحالة النقدية في ليبيا تتسع كل يوم ربما لانتشار المعرفة ولكن يبقى هناك فرق بين الناقد المتخصص والناقد العادي الذي يسجل رأيه في الأعمال الأدبية دون انتباه لخصوصية كل جنس من الأجناس الأدبية، لتبقى الأعمال الإبداعية أكثر نضجاً وعدداً قياساً بالأعمال النقدية التي ما زالت تفتقر إلى الكثير من الوعي بمتطلبات هذا المجال المعرفي.

وتعتبر أن النقد والإبداع يحتاجان إلى مساحات واسعة من الحرية المفتقدة في ليبيا في ظل الصراع الدائر، كما أن الصراع الدائر المسلح لا يوفر مناخا مناسبا للكتابة والإبداع والتفكير والتأمل كما في ظروف استقرار المجتمعات وفي أوقات السلم.

تبين الحاجي أن العلاقة بين الثقافي والسياسي لا تنفصل؛ فهما مجالان مرتبطان ببعضهما البعض أشد الارتباط وتجمع بينهما علاقة وطيدة متشابكة، فالرأي الأول يقول إن النجاح الثقافي مرتبط بالنجاح السياسي ونجاح التجربة السياسية، وفي الوقت نفسه هناك الرأي القائل بأن الثقافة هي الرافد الأساسي للحالة السياسية ونجاحها وتصحيح مسارها، مستطردة “أنا أعول كثيرا على العامل الثقافي وأهميته في التقدم السياسي، ولو كنا متقدمين ثقافياً لما وقعنا في أزمات سياسية في هذا العصر ولما وقعنا في حبائل الغرب ومزقنا أوطاننا بأيدينا”.
وتضيف “لا أعتقد أن المجال السياسي يحد من جمالية الرواية ما دام الكاتب على وعي بإضمار موضوعه السياسي في لب الرواية، وخلق الإثارة والتوظيف اللغوي والبنائي والاستيطيقي لعمله، وإن كان القارئ العربي لا يستحسن هذا النوع من الروايات”.

وفيما يتعلق بضرورة مواكبة العمل الأدبي للتغيرات المجتمعية، تؤكد الحاجي أن العمل الروائي لا ينفصل عن الواقع وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، وكثيرًا ما يوظف الكاتب الرموز هروباً من الظلم والاستبداد المسلط على المجتمع العربي، ومن الأهمية بمكان أن ينبع الأدب من الواقع المعيش ويساير التغيرات التي تحصل في المجتمع، وهذا لا يمنع من التطرق إلى مواضيع أخرى وفترات مختلفة. ونجاح هذه الأعمال يتوقف على قوة الموهبة والقدرة الفنية لكل مبدع على إقناعنا بعمله وجمالياته مثل العمل العالمي “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي الذي يدين الواقع المتناقض.

وتلفت إلى أن الرواية لها عدة أدوار في المجتمع؛ إذ تُقدّم لقرائها نماذج من الحياة وتجارب غنية في قالب فني ساحر، فهي حياة تضاف إلى حياتنا، ونظرا إلى جمالياتها لها تأثير كبير على القارئ، فالرواية تستلهم من حولها، تستلهم الإنسان لتبنيه لنا حاملة معها المتعة العقلية والجمالية والمعرفة، ورؤية جديدة للمستقبل الذي نتوق إليه جميعا.

ونلفت إلى أن فاطمة الحاجي روائية وناقدة ليبية، صدرت لها في النقد ثلاثة كتب؛ “القراءة النقدية الجديدة” و”مفهوم الزمن في الرواية الليبية” و”الخطاب الروائي”. ونُشرت لها قصص قصيرة في عدد من الدوريات، فضلًا عن روايتها “صراخ الطابق السفلي”. عملت عضوة هيئة تدريس في جامعة طرابلس، وهي عضوة في لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية هذا العام.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى