احتفى بها المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة: إيمانويل ريفا وتعاويذ الذاكرة وحيلة النسيان «هيروشيما آلان رينيه» إلى «حب مايكل هاينكه»

محمد عبد الرحيم

أقام المركز الفرنسي في القاهرة أمسية احتفائية بمناسبة رحيل الممثلة الفرنسية إيمانويل ريفا (24 فبراير/شباط 1927 ــ 27 يناير/كانون الثاني 2017)، بعرض فيلمين من أهم أفلامها، ومن أهم الأفلام في تاريخ فن السينما، هما «هيروشيما حبيبي» 1959 للفرنسي آلان رينيه، و«حب» 2012» للنمساوي مايكل هاينكه، ورشحت إيمانويل عن الأخير للفوز بجائزة الأوسكار.
وقد اكتشفها آلان رينيه وهي ممثلة فوق خشبة مسرح باريسي، لتصبح بطلة أول فيلم روائي طويل له، يبحث عن الوجود من خلال الذاكرة، لتختتم مسيرتها بفيلم هاينكه، الذي يؤكد الوجود الإنساني الهش من خلال فقدان الذاكرة أيضاً والتخلص منها. أكثر من نصف قرن مضت على الفيلمين، وبينما يتمسك «هيروشيما حبيبي» بامتلاك الذاكرة واختراع تفاصيلها واستحضارها، أملاً في مستقبل مقبول، يصبح «حب» باحثاً عن إعادة ترتيب العالم في قسوة، بالإصرار على التخلص من هذه الذاكرة وثقلها. المقارنة بين الفيلمين تجمعهما ممثلة واحدة، وهي مصادفة من مصادفات الحياة ترقى لمصادفات السينما ومنطقها الخيالي، ذلك إن حاولنا أن نتخيل بدورنا أن ما بين الفيلمين حياة لامرأة واحدة.

جندي ألماني على الحدود

تتقاطع ذاكرة الممثلة الشابة في زيارتها إلى هيروشيما بعد الحرب لعمل فيلم عن السلام، متزوجة الآن ولم تزل في عمق ذاكرتها مشاهدها مع حبيبها، جندي ألماني على الحدود، كيف بدأت نظراته وكيف وقعت في حبه، وكيف كانا معاً، ونهاية بموته أمامها أثناء الحرب. لقطات ما بين الغابات وممارسة الحب في كوخ خشبي وفراش من القش ومصباح خافت، هنا الجسد يصبح في تآلف وتناغم تام مع الطبيعة. إلا أن الذاكرة التي تتوسل بهذه الومضات تتداخل معها لقطات أخرى في غاية القسوة، بنايات إسمنتية، أجساد مشوهة وأطراف مبتورة. وما العاشق الياباني الذي تعرفته لليلة واحدة سوى صورة أخرى للقاء عابر تعرف تماماً هذه المرّة أنه سينتهي ــ كما العلاقة التي انتهت ــ لتصبح مظاهر الحب هنا أقوى من الجسد وتفاصيله، رغم الاحتفاء الشديد بهذا الجسد، وكأنه خريطة لروح أصحابه، الفعل الحقيقي هنا هو حكاية حبها الأول، وأنها لم تتفوه بها لأحد غيره، لقد أصبح يشترك بإرادتها في جزء من ذاكرتها. هي أيضاً أودعته هذا الحدث تعبيراً عن حبها الشديد له. الاشتراك في الذاكرة والاحتفاظ بها لدى شخص آخر. حادث الحب وسط كل هذا الخراب هو الأكثر بقاء والأكثر أثراً على مواصلة الحياة. الفيلم أيضاً على مستوى الشكل والتقنية لم يضع حداً فاصلاً ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، لحظة واحدة مستمرة، أكدته الأشكال المتداعية ما بين الوثائقي والروائي، هدم رينيه الحدود وسخر منها ــ كحال رواد الموجة الجديدة ــ فلديه حكاية وحالة لابد من إيصالها، وما بين الحوار المتراوح بين القصيدة والنثر، الذي كتبته مارغريت دورا، التي بدورها خاضت حياة أشبه بحياة بطلة الفيلم، ودونتها في العديد من أعمالها الروائية والسينمائية، وبين اللقطات الفوتوغرافية الحقيقية عن مأساة هيروشيما وأهوالها، يسقط الزمن تماماً، ولا تبقى سوى ذاكرة إنسانية تحتفظ بما لديها ككنز حقيقي رغم قسوته.

رجل وامرأة وحياة تنتهي

إن كانت قسوة آلان رينية إدانة للعالم دون شخصياته السينمائية، فقسوة مايكل هاينكه لا حدود لها، هناك شعور بذنب جمعي يحاول هاينكه أن يورط فيه الجميع. وفي فيلمه «حب» هذا الاسم المفارق والساخر لما يحدث، نشاهد روح البطلة وهي تصعد في بطء وقسوة، كل يوم تستنزف ذاكرتها، والزوج يحاول دون جدوى التشبث بهذه الذاكرة، لكنه في النهاية يتخلص منها تماماً. المرأة لم تعد تعرفه ولا تعرف نفسها ولا عالمها، حالة موت تتحقق، فما الداعي لاستمرار الجسد وآلامه بعد ذلك.
يبدأ الفيلم بحادث انتحار في البناية نفسها التي يسكنها الزوج والزوجة العجوز. الموت يطل من البداية على الأحداث، لا شيء مجانيا هنا، ورغم تفاني الرجل مع المرأة، ومحاولاته المستمرة أن يعيدها للحياة/تذكيرها بالأشياء والأحداث والأماكن، إلا أن ذاكرتها تنهار أكثر، وتفتقد وجودها بالفعل. ثقل الذاكرة هذا تخلصت منه المرأة قبل موتها الفعلي، وتركته وحيداً وقد أصبحت لا تعرفه. لقد سطت على تاريخهما معاً، فرّت ومحت كل ما كان.
ولنلاحظ الفارق بين الفيلمين أو الحالتين، فبينما تحرص بطلة «هيروشيما» على تقديم دليل حبها للرجل الذي التقته مصادفة، بأن تودعه حكايتها البعيدة، تصر بطلة «حب» على محو كل الحكايات والتخلص منها، فما كان من الرجل/زوجها إلا قتلها، فالجسد بلا ذاكرة قد انتهى بالفعل. وبينما يحلم رينيه بمواصلة الحياة وعدم تقسيمها إلى لحظات زمنية، بل لحظة واحدة مستمرة، يعمل هاينكه على القطيعة الحادة وهذا الزمن الماضي، فلا مستقبل إلا بالتخلص من هذا الماضي تماماً، وجيل العجائز هذا بكل تاريخه، مهما حقق من أمجاد أو انتصارات أو مظاهر حضارية يجسدها المشهد الافتتاحي في دار الأوبرا. تاريخ تنوء به ذاكرة أصحابه، فتناسته عمداً وانتظرت لحظة الرحمة، وهي الموت.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى