‘نجم الجزائر’: إفراط المخرج في الطموح أفسد القصة الحارقة

أمير العمري

تدور أحداث الفيلم الجزائري “نجم الجزائر” لمخرجه رشيد بن حاج في بداية التسعينات من القرن العشرين مع بدء ظهور جماعات الإرهاب باسم الإسلام وسيطرتها على الشارع وترويعها للآمنين من الناس.

بطل الفيلم شاب اسمه موسى يريد أن يصبح مغنيا مشهورا، وقد كوّن مع عدد من أصدقائه فرقة موسيقية كانت تغني في حفلات الزفاف، وتتوفر لهم فرصة للغناء في ملهى ليلي شهير في العاصمة، ثم يلتقطه منتج يريد أن يصوّر بعض أغانيه ويصدرها في ألبوم، ولكن طبقا لشروط تجارية لا تتناسب مع طموحات موسى الفنية.

والمشكلة أن الفيلم الذي يُفترض أن يكون بطله مغنيا، لا يكاد يوجد أثر للغناء فيه، خاصة الغناء الذي يبرز تمرد موسى أو إحساسه الشخصي المرهف بالعالم والبشر من حوله، فلا يصبح مفهوما بالتالي سر تناقضه مع منطق منتج الأغاني صاحب النوعية التجارية الذي يبحث عن الأغاني الراقصة بغض النظر عن مضمونها الفج، لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة في الفيلم.

في هذا الفيلم تكمن المشكلة الأساسية في ضعف السيناريو، وركاكة الإخراج وارتجالاته وبدائية تنفيذ مشاهد الفيلم، والميل إلى النمطية والرغبة في الإضحاك، والافتراضات القائمة عند المخرج الذي يرى أنه يتوجه إلى متفرج ساذج لا يدري شيئا عما حدث في الجزائر، فيجعل فيلمه بالتالي مليئا بالخيوط والعلاقات والمواقف السطحية الساذجة التي لا تقنع أحدا، وبالشخصيات التي تعبر فضاء الفيلم، دون دراسة ودون عمق، ودون أن نفهم الدوافع التي تحركها، ودون أن تتجاوز الصور النمطية الهزلية.

موسى، على سبيل المثال، يحب سلمى حبا مفرطا في المثالية، رغم أن المتفرج يمكنه أن يرى بوضوح أنها لا تبادله الحب، بل وتبدو أيضا نافرة منه، تدينه وتدين ما يفعله وتعتبره إضاعة للوقت، خاضعة تماما لوجهة نظر أسرتها المحافظة التي ما زالت تعتبر مهنة الغناء التي يمتهنها موسى -رغم ما توفره له من دخل يكفل له الإنفاق على أسرته المكونة من أربعة عشر شخصا- مهنة غير لائقة، وكأننا نشهد فيلما من أفلام الخمسينات الميلودرامية.

ثم تطالب سلمى موسى بتوفير شقة سكنية مناسبة قبل أن يتحدث عن رغبته في الزواج منها، ليتخذها المخرج-المؤلف فرصة لتقديم عرض كاريكاتيري هزلي لأزمة السكن في الجزائر، مصورا كيف تعيش أسرة موسى في شقة ضيقة يتبادل فيها الأشقاء النوم في فراش واحد، ثم يتزوج شقيقه الأكبر ويأتي بزوجته لتقيم مع الأسرة ليصبح هناك خمسة عشر شخصا حشروا في فضاء ضيق.

ويلجأ موسى إلى صديق يساعده في الاستعانة بشقة فاخرة يمتلكها أحد رجال المافيا الجزائرية، لكي يقنع سلمى بأنها شقته التي حصل عليها قبل أسبوع واحد، رغم أننا نراها مفروشة بالكامل، وهو ما لا ينطلي على أحد، لكن سلمى تقتنع إلى أن تنكشف الخدعة مصادفة!

ولم يكن هناك معنى لتصوير أحد أشقاء موسى مصابا بمرض التوحد على غرار داستين هوفمان في “أهل المطر”، ولا في المشاجرات المفتعلة بين شقيقة موسى المطلقة التي تحمل طفلها الرضيع، وبين زوجة أخيها، العاطل المغيب الذي يقوم بتنشيط عضلاته دائما دون معنى.

ورغم رفض سلمى الزواج من موسى، فإنه يذهب دون سابق إنذار مع أمه لخطبتها من أهلها في حي القصبة، ولعل المشاهد المصورة في القصبة تحديدا من زوايا عالية تطل خلالها الكاميرا على جزء من المدينة في مواجهة البحر، من أفضل مشاهد الفيلم رغم تكرارها وإيقاعها البطيء.

أما الموضوع الرئيسي للفيلم وهو موضوع التطرف، فيتجسد من خلال شخصية شاب كان في الماضي القريب صديقا لموسى وكان الأصحاب يطلقون عليه “سبارتاكوس”. وقد أصبح الآن متطرفا، يطلق لحيته ويرتدي الجلباب القصير، ويقوم بترويع النساء غير المحجبات من ساكني المنطقة ويهددهنّ بالقتل ويعتدي على إحداهنّ بقذف وجهها بماء النار عقابا لها على عدم الانصياع لتعليماته بارتداء الحجاب، كما يجند شقيق موسى الصغير، مع عدد من شباب الحي، ويتوعد موسى نفسه إن لم يكف عن الغناء بدعوى أنه يتناقض مع الشريعة الإسلامية.

ويقع اغتيال صحافي جزائري في أحد المقاهي دون أن نعرف السبب، ولكن المخرج يريد أن يشير إلى فترة اغتيال الصحافيين في الجزائر، كما لا نعرف لماذا تهجر سلمى موسى عن قناعة بأنه لا يصلح لها، ثم تعود إليه بعد أن تمر على ما يبدو بتجربة زواج فاشل من شخص يفرض عليها ارتداء الحجاب، وهو مجرد افتراض فليس هناك شيء واضح، ثم تصبح فجأة على استعداد أيضا للهرب معه إلى فرنسا. لكن يقع ما لم يكن في الحسبان لتدفع سلمى حياتها في إطلاق نار من جانب شقيق موسى كان المقصود أن يصيب موسى نفسه بأوامر صارمة من سبارتاكوس!

وإذا كان فيلم يفترض أن يدور حول الغناء الجزائري الذي يجمع بين الشعبي والجاز، يخلو على نحو يثير الشفقة من الغناء والموسيقى، وإذا ما تجاوز المرء تعدد الأفكار واختلاطها وتشوش الرؤية وسطحيتها، والتنفيذ البدائي لمشهد إطلاق النار والأداء التمثيلي الباهت، فأين أصبح موضوع الفيلم الرئيسي بعد هذا؟

سيفاجأ المشاهد “بعد نهاية الفيلم”، أي بعد أن ينزل عنوان النهاية، بأن الموضوع الذي أغرى المخرج بتجسيده في السينما استنادا إلى الرواية التي اقتبس منها السيناريو، يغيب تماما عن الفيلم ليكتفي المخرج بأن يستر عجزه عن تناوله بجدية ببعض العبارات التي نقرأها على شاشة سوداء، تخبرنا بأن موسى اعتقل وسجن بتهمة قتل شقيقه الأصغر بطريق الخطأ (رغم أن شقيقه هو الذي أطلق النار فقتل سلمى بطريق الخطأ) وقضى خمس سنوات في السجن، ثم خرج لكي يتخلى عن ملابسه العصرية وعن الغناء، ليرتدي الجلباب ويصبح من المتطرفين، بل وأحد أمراء الجماعة الإسلامية الإرهابية أيضا!

كيف كان وقوع هذا التحول ممكنا؟ ليس مهما أن تسأل أو أن تعرف، فكل شيء في فيلم رشيد بن حاج افتراضي تماما، طالما أن ما نشاهده يظل مجرد افتراضات لا صلة لها بالواقع سوى من حيث الشكل الخارجي فقط، مع الكثير من المفارقات والمصادفات المفتعلة، والتناول السطحي لقضية المرأة ونظرة الرجل إليها في مجتمع متخلف، وتنميط شخصية الأجنبي-الأوروبي ووصمه بالشذوذ.. إلى آخر كل هذه الأنماط السطحية.

يعاني الفيلم من عدم وضوح العلاقات بين الشخصيات، فليس معقولا أن يصل جنون الحب عند موسى إلى درجة أنه لا يستطيع أن يرى كيف أن سلمى لا تبحث عن رجل يحبها، بل عن رجل يوفر لها سبل العيش الجيد وأنها لا ترى فيما يفعله شيئا جديرا بالاحترام، وعندما تقرر أخيرا أن تلحق به لا يبدو تحولها هذا مقنعا.

كما لا يبدو مقنعا أن يلجأ موسى كلما أراد العثور على أي شيء، كهدية يقدمها لسلمى: زجاجة عطر تكاد تلقي بها في وجهه، أو سترة مميزة يرتديها في حفلاته الغنائية التي لا نرى منها شيئا، إلى رجل يدعى قابس، شبه مختل عقليا، يحدثه عن أن ما لديه من سلع غريبة يعتبرها تاريخية تعود إلى كليوباترا وجنكيز خان والفيس بريسلي، فهو يختزن في منزله الكثير من الألعاب الطريفة والملابس، لكي يقول لنا بن حاج إن هذا الرجل ليس سوى انتهازي يحتال على الجميع للحصول على المال ولو بتزويد الجماعات المتطرفة بالأسلحة في مشهد ظهوره الأول الذي يأتي في سياق الفيلم على نحو عابر.

هذه الشخصية التي أراد من خلالها إضفاء جو من المرح على الفيلم، تتسبب نتيجة الاستطرادات والإسهاب في تصوير الحوارات بين قابس وموسى، في هبوط الإيقاع، والابتعاد عن الموضوع الأساسي.

لقد أراد بن حاج أن يصنع فيلما عن جذور الإرهاب في الجزائر، فانتهى إلى صنع فيلم يتضمن خلطة متنافرة من الرومانسي والميلودرامي والاجتماعي الهزلي والتعليق السياسي السطحي الذي يعبر الفيلم سريعا، كما أن معظم ما يقع في الفيلم من تطورات وما تؤدي إليه الأحداث يمكن توقعه كله سلفا.

ولهذه الأسباب كلها، يخرج المشاهد بعد مشاهدة الفيلم دون أن يكون قد تعاطف مع أو ضد أيّ من شخصياته، وأقل معرفة بما حدث في الجزائر بعد أن أصبحت مصادفات قدرية غامضة هي التي صنعت المتطرف وألهمته التحول من مغن شعبي إلى إرهابي لا يراه أحد، بل يقرأ عنه بعض المعلومات!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى