أسماء معيكل تتقصّي خفايا السرد في «سيرة العنقاء»

صدر حديثنا كتاب «سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة الى ما بعد مركزية الأنوثة» للناقدة السورية أسماء معيكل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يأتي الكتاب ضمن الدراسات الثقافية الجديدة، والتحليل الثقافي للظواهر في سبيل تفكيكها والكشف عن مخبوئها، سعيًا إلى الوصول إلى حقيقتها، ومن ثم التوصّل إلى بناء معرفة بديلة، وتحقيق التغيير الاجتماعي، عبر الاهتمام بتجارب النساء وأصواتهن في بناء معرفة بديلة، تراجع المعرفة السائدة والمهيمنة، التي كشفت النسويات عن مواضع غياب النساء فيها، وإقصائهن وكتم أصواتهن وتغييب التجربة النسائية فيها وتجاهلها؛ فالنسوية لم تعد مجرد نزعة أو اتجاه في مجال الدراسات الأدبية والنقدية، بل هي فكر وممارسة، وحركة هادفة إلى إحداث تغيير اجتماعي أساسه الكشف عن أوجه الظلم، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بين الجنسين، فالبحث النسوي يتصدى للبنى الفكرية والاجتماعية والأيديولوجيات القائمة على قهر النساء، عبر توثيق حيوات النساء وتجاربهن وهمومهن، وإلقاء الضوء على الأنماط والتحيزات القائمة على أساس الجنس، والكشف عن معارف النساء التي طال إغفالها. كما أن أهداف البحث النسوي تعزز تمكين النساء وتحريرهن في سبيل تشجيع التغيير الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية للنساء.
إنّ التصدعات الاجتماعية والقيمية التي شهدتها المجتمعات العربية، وما وقع من أحداث جسام في العقود الأولى من الألفية الثالثة، ومن ذلك الأزمات السياسية والاقتصادية، والحروب الأهلية والفتن المذهبية والاستبداد الديني والعسكري والقبلي، قد ألقى ظلاله على أحوال المرأة، فعادت بها القهقرى إلى الوراء، إلى ما قبل عقود من ذلك، ففقدت ما حققته سابقًا من مكاسب نالتها عبر مسيرة كفاح طويلة من أجل حقوقها، فقد ثبت أن معظم ما تحصّلته تلك المجتمعات من مفاهيم للحداثة، والتمدّن، لم يكن سوى قشور هشة انهارت سريعًا لتكشف عن الجاهلية الأولى، التي ما زالت تعشش في العقول، وتنبض بها القلوب، ولعلّ المرأة تكون إحدى أبرز ضحايا هذه الأحداث، فقد أعيدت إلى زمن وأد البنات؛ بسبب النزوح والهجرة والتطهير العرقي والمذهبي، وجرى إحياء مفاهيم سبي النساء بين الأطراف المتقاتلة، ووقع بيعهن كسبايا في أسواق النخاسة، إحياء لتقاليد القرون الوسطى في اقتسام غنائم الحروب، ومارست الأنظمة السياسية عنفًا مفرطًا بحق نساء الجماعات المعارضة لها، كان أقله الاغتصاب، وفي المناطق التي نجت من أعمال العنف، ضربت الحجب على النساء، ووقع تشريع النقاب، كأن المرأة عورة يمتنع أن ترى العالم إلا من وراء خمار، وكلما تقدّم بِنَا الزمن بُعثت تقاليد الماضي البعيد، كأنّ مجتمعاتنا تقاوم الحداثة بمزيد من قهر النساء، وفي ذلك إعادة، لا تخفى على ذي بصيرة، في ترسيم الحدود التي توهمنا أن مجتمعاتنا قد تجاوزتها، فإذا بها تُعيد بعث كثير من ذلك بدواعي الأصالة والحفاظ على الهوية.
وقد تقصدت الكاتبة اعتماد السرد موضوعًا للتحليل؛ لأنّه تولى تمثيل أحوال المرأة على خير وجه، وعبّر عن مجمل الأمور الخاصة بها، ولكنها لم تتقيد بحدود التخييل السردي لأحوال المرأة، بل تخطت ذلك إلى مصادر التاريخ والأديان، ومراجع الفكر النسوي والدراسات الثــــــــقافية، واختيارها للسرد النسوي مادة للتحليل، لم يكن سوى ذريعة للنفوذ إلى ما وراء ذلك، إلى نقد المرجعية الاجتماعية والدينية والأخلاقية الحاضنة للتمثيلات السردية، التي وجدت فيها عالمًا خياليًا، يوازي العالم الذي نعيش فيه، وبقليل من التأويل فإنّه يحيل إليه، فلم تكتف بظاهر النصوص، بل تجاوزت حدودها إلى العالم الحقيقي المنتج لها.
لكن يصحّ القول بأنّ الغاية من الكتاب هي تقصّي خفايا السرد النسوي، الذي قدّمته كاتبات نسويات وفق رؤى نسوية للعالم، وإعادة تمثيلهن لأحوال الأنوثة في مجتمعات غارقة في تمركزها حول الذكورة، وكيف ووجهت المركزية الذكورية بمركزية أنثوية مضادة في بعض الأحيان، وتجاوزتها إلى ما بعد المركزية الأنثوية في أحيان أخرى. وقد ارتأت المؤلفة أن يكون عنوان كتابها «سيرة العنقاء» ولعل العنقاء هي الكاتبة بشكل من الأشكال، وهي كل امرأة تتطلع إلى تعديل موازين القيم والأعراف والقوانين والحقوق والمسؤوليات، وصوغ هوية متكاملة للمرأة، ففيه شيء من سيرتها، وسيرة شبيهاتها من النساء اللواتي يرغبن في تحقيق شراكة متوازنة، في مجتمعات مشغولة بقضايا تبعدها عما ينبغي أن تتجه إليه، وقد أرادت أن تقف فيه على أوضاع المرأة التي مازالت تتأرجح بين الثبات والتحوّل، المرأة التي ما قرّ وضعها، وما ثبتت على حال، متكئة على رمز العنقاء بكل ما يحتويه من دلالة، وكيف أن المرأة، على الرغم من كل ما يحيط بها من ظروف صعبة، كانت تنبعث من تحت الرماد، لتعبّر عن ذاتها، ولتبحث لنفسها عن موطئ قدم، في مجتمع يهيمن عليه الذكور؛ بيد أنها في كل مرة تنكسر فيها تعاود النهوض من جديد لتنبعث، فقد فشلت كل السبل في دفن رغبة حواء في الحياة السوية، فمن حواء اشتق مفهوم الحياة.
تناولت الكاتبة في الفصل الأول «عالم الحريم: من التخوم إلى المتاهات»، وفي الفصل الثاني تقصت أبعاد «الرؤية النسوية للعالم»، أما الفصل الثالث فأفردته للحديث عن «الأمومة: في القول بحتمية الوظيفة الإنجابية للمرأة»، وجاء الفصل الرابع ليعرض بجرأة لموضوع «البغاء في مرايا نسوية»، وكشف الفصل الخامس النقاب عن «الصداقة والمثليّة في السرد النسوي»، واستحوذ الفصل السادس على قضية «الشرف والمرأة»، واختتمت المؤلفة كتابها بالفصل السابع الذي أفردته للحديث عن «الجسد الأنثوي: من التملّك إلى الاغتصاب».

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى