‘تراب النخل العالي’ .. مقاومة الذات المسالمة

أيمن رفعت
تدفع قصص مجموعة “تراب النخل العالي”، الصادرة عن سلسلة “إشراقات جديدة”، بالهيئة المصرية العامة للكتاب إلى التفكير في تلك الذات التي تقاوم المسالمة، وتتعدد مستويات ظهورها داخل القصص. هذا التعدد تختلف معه آليات المقاومة التي تزيد من البصيرة الكتابية استخداما في التحرر من ضرورة التصالح مع العالم أو حتمية ترويضه.

في قصص المجموعة نقف مع القاص فكري عمر، عند حافة الانتهاك دون التقدم نحو التورط في عنفه. نراقب محاولات تلك الذات للانفلات من الخضوع للرغبة في تنظيم الواقع، والتي تأخذ أحيانا – أي المحاولات – طبيعة الحلم.

فكري عمر فازت روايته “الزمن الآخر” بجائزة المجلس الأعلى للثقافة (دورة إبراهيم أصلان) عام 2013 الجائزة الأولى، وله مجموعة قصصية بعنوان “الجميلة وفارس الرياح”، ونشرت قصصه القصيرة في جريدة أخبار الأدب، والثقافة الجديدة، والاخبار، والأهرام المسائي وغيرها.

في مجموعته القصصية “تراب النخل العالي” يتخلى الكاتب عن الفانتازيا لصالح سرد واقعي في جل قصصه ولكن قبل أن يتبادر إلى الذهن أنه سرد يرصد في مباشرة وفقط، على أن أوضح سرد فكري الواقعي شديد العمق والدلالة والتقاط التفاصيل وتضفيرها شديد الحنكة والذكاء، وأن القصص مشبعة بالمتعة حد أنها تتقاطر منها.

لكن كيف جاءت هذه النقلة من الفانتازي إلى الواقعي؟ سأسترشد بإحدى قصص المجموعة وهي “صيد النجوم”، بطلها كاتب قصصي كذلك، وأعتقد في تأويل شخص لي أنه فكري نفسه أو معادل له، والذي سنجده يتسلل ككاتب قصة في عدد من قصص هذه المجموعة ليكون شاهدا ومشاركا وبطلا أحيانا في تجريب سردي موفق، بطل هذه القصة كاتب القصة المثقف يستيقظ ليجد العالم قد غرق في الكلمة فيتخيل أنه قد وقع ضحية خيال كاتب أو سينمائي جعل منه بطلا في عالم فانتازي تماما كأبطال ساراماجو في رواية العمي ربما، لكن بطلنا هنا يتيقن أنه يرى ولم يصب بالعمي، فقط العالم هو الذي أظلم، يخرج من مسكنه لتطالعه الفوضى وحكايات عن الشمس التي هوت والذئاب الحيوانية، وتلك البشرية التي تنهش في اللحم في واقع مرير.

في منولوج داخلي بين بطل القصة ونفسه، تبدو أن فانتازيته لم تكن أبدا بلا هدف، فهو لن يترك بطله الفانتازي ليصارع خيالات في عالم مغلق، بل لفانتازيته دائما هدف ودلالة وأعتقد أن هنا يعبر عن رأي فكري ذاته في استخدام الفانتازيا.

وعنوان القصة المراوغ يعتبر إضافة للنص، فالقصة لا نجوم فيها ولا صيد، فقط ظلام وجزع وفوضى وتلف النجوم، فيكون العنوان في هذه الحالة إضافة للنص، تحركه في اتجاهات أخرى.

يعود الكاتب للفانتازيا مرة أخرى وهو يرصد في القصة التي تحمل عنوان المجموعة سقوط النخل على الدور، تلك الكارثة التي فجرت أسوأ ما في البشر، هو هناك يرصد تلك الديستوبيا المؤلمة، البشر الذين شتت قلوبهم المأساة، ليصيروا فرقا تتنازع وتسيل دماء، في تراجيديا تشبه تلك التي كانت للآخرين، إلا أن جل القصص تعبر عن ذلك الواقع الأليم الذي نعيشه وتلك اللحظة التي حسم فيها المثقف خياراته ليكف عن التعالي في تحليل اللحظة وليعيشها بكل ما تحمل من فوضى وألم ولينجرف معها كبطل يوتوبي، ترك كهف أفلاطون وقرر أن ينغمس وحتى الثمالة في رصد العالم البغيض، وهي لحظة لا حول له فيها ولكنها لحظة فنية بامتياز.

ونرى الكاتب يرسم مشهدا لميكروباص وسائق معمي من البرشام، ولنستمع لذات الحوارات التي نسمعها كل يوم من زبائن الميكروباص على اختلاف مشاربهم وتوجيهاتهم، وهنا تظهر حرفية فكري، فالفن هو إعادة خلق وترتيب للعالم.

فكري ورغم إخلاصه لواقعية شديدة في كثير من هذه القصص إلا أنه يدرك كيف أن الفن ليس مجرد سرد فهو يقدم إضاءاته ويكثف المعنى ويتلاعب بنا ويمتعنا بقدر ما يؤلمنا.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى