قصص دورنمات الثلاث: العالم بعد لحظات من الحرب الثالثة!

حسن داوود

يعرّف المحارب عن نفسه، في الجملة الأولى من سيرته الهاذية، بأنه جندي مرتزق. لا يرى أن في ذلك ما يعيبه أو يحطّ من شأنه، فهو يفتخر بكونه مرتزقا. المحارب المرتزق هو أفضل من الجندي العادي (المستعد لأن يموت في سبيل وطنه) الذي يكفيه اقتناعا أن يثق بقادته الذين يصدرون له الأوامر. المرتزق يحارب فقط، فهو لا يكترث بمعرفة من هو العدو، «العدوّ الذي لا شكّ في وجوده لأننا نقتله». وهو لا يحارب فقط مَن يفترض أنه عدوّه، بل أيضا أولئك الذين هم في صفوفه «أولئك (المرتزقة أيضا) الذين يفهمون مغزى الحرب فهما مغايرا»، ثم إن واحدهم قد يقتل من هو في صفّه، في صفّه ذاته، طالما أنه يرتدي تلك الثياب ذاتها التي يرتديها المرتزق الآخر عدوّه. وهما يقصدان الماخور نفسه، وذلك بحسب اتفاق توصّل إليه الضباط المسؤولون عن هؤلاء وأولئك.
ثم إن المرتزق قد يجد نفسه هناك بعد أن كان هنا، أي أن يصير في المكان الذي كان فيه عدوّه. ذاك أنه، وهذا ما يميّزه عن الجندي العادي، الشريف، أنه يميل إلى المسائل الثانوية وينحاز إلى «الفروق والظلال» ويراها أهمّ من «الرأي الرئيسي». بذلك يكون يقوم باللعبة ذاتها التي يجريها القادة الكبار، أولئك الذين يصدرون قرارات السلم والحرب. في القصة التي عنوانها «السقوط»، وهي الثانية في الكتاب*، ها هم القادة والرؤساء يكيدون لبعضهم بعضا في مناورات هي لكثرتها، صار من الصعب معها أن يُذكروا بكامل مهامهم وألقابهم (مثل «مدير المخابرات» أو «وزير الصناعة الثقيلة» أو «رئيس مجموعات الشبيبة»)، فاستعيض عنها بأحرف كأن يكون هذا ممثّلا بالحرف (ذ) والآخر بالحرف (ح) والثالث بـ(ض). وفي تنازع هؤلاء، في أحابيلهم المتسمة باللؤم والخوف، جعلَنا دورنمات نقرأ ما يشبه لعبة أطفال معقدّة، أبطالها حروف تتقاطع وتتداخل ويحلّ بعضها محلّ بعض.
لكن المهم هو أن المرتزق يمكنه أن يكون على مثال صانعي الحرب الكبار، باقيا مثلهم طالما لعبة الحرب، أو لعبة السلطة في ما يخصّهم، باقية. في قصّة «حرب التيبت الشتوية» هذه، حيث يحكي المرتزق سيرته، نجده وقد أمعن في الحرب حتى باتت أكثر أعضائه مصنوعة من مطارق وأسلحة وأدوات حربية أخرى. وفي الكهف الذي يسجل سيرته على جدرانه، شأن ما كان يفعل البدائيون، ينقش كتاباته بسطور يبلغ طول أحدها مئتي متر، على ألا يتعدّى السجل الواحد خمسة سطور، ينتقل منه إلى أن يبدأ بأن يخطّ سجلا آخر. ذاك لأن لديه الكثير ليقوله، أكثر بكثير مما كان متاحا للبدائيّ. الدليل على ذلك هو امتلاء تلك النقوش بفلسفات ونظريات حقيقية، وإن اختلط بعضها بإبداعات وتهويمات وهلوسات. أما مَن تُكتب لهم هذه النقوش فهم ساكنو الكواكب الأخرى، أولئك الذين قد يصلون ذات يوم إلى كوكب الأرض، ليجدوا أثرا مدوّنا عن حياة كانت جارية عليه.
ذاك أن الأرض هذه مقبلة على زوال، وقد بدأ ذلك بتتابع إلقاء القنابل الذرّية على المدن. في القصّة استغرق الكاتب دورنمات بوصف إحدى هذه المدن بعد احتراقها، أو اختناقها بالقنبلة. ليس الأبنية فقط بل الأثاث الذي كانت تحتويه، والبشر الذين كانوا هنا، والشجر كذلك، وكل ما كانت تحمله الأرض. رؤية قيامية للأرض في لحظات زوالها الأخيرة. وهنا لم يكن ما وصفت به هيروشيما إلا محفّزات أولى لإعمال دورنمات مخيّلته.
هي رؤية قيامية استُدخل فيها الجنون والسخرية وما أنتجته المخيّلات السينمائية في اختراعها لبشر نصف أحياء نصف آليين. وكان ذلك، على الرغم من وحشيته في أدنى ما تحمل إليه القصة قارئها من عنف متربّص بالبشر.
ولا تتولّد القسوة فقط من الحرب التي هي، بحسب ما توصّلنا إليه من معرفة، أكثر تطّورا منا، ومن السلطة التي تحارب من تحكمهم فيما هي، رغم ذلك التطور، متنازعة من أطرافها، ولا تأتي القسوة فقط من تحوّل البشر إلى ضحايا، لما أتت به عقولهم، ومنها اختراعها لوسائل الموت، ثم اختراعهم الخوفَ منها. في قصّة الكتاب الأولى «الخسوف» كان الكاتب قد بدأ بهجاء زمن السذاجة السابق، زمن العيش في قرية، ليرينا كيف أن البشر يذهبون بسواهم إلى الموت من دون أن يكون دافعهم اللؤم أو الكره، فهم ما يزالون على سذاجتهم إياها. في هذه القصة، وهي الأولى في الكتاب، بين القصص الثلاث، نرى كيف أمكن للمال الطارئ على القرية أن يأخذ الجميع إلى التسليم طوعا بمقتل أحد أبنائها. كلّهم قبلوا بذلك، بمن فيهم الرجل الذي يقع عليه القتل، فنراه يجلس طائعا تحت الشجرة الضخمة التي يبدأ الآخرون بنشرها حتى تقع عليه وتميته.
أما القاتل، الذي جاء إلى القرية حاملا في صندوق سيارته الأربعمة عشر مليونا دفعها ثمن جريمته بعدما كان قد جمّعها في مهجره، فجعل يضاجع نساء القرية، برضا أزواجهنّ المنشغلين بعدّ الرزم، رزمة بعد رزمة، وساعة بعد ساعة لم يتوقف الرجل الوافد إليهم بالمال عن مجاراتهم، أو عن ملازمتهم، في ما يقوم به مع النساء، هكذا بفعلين متلازمين ذكّرا قارئهما بدورنمات في نصوصه وعروضه المسرحية.
كتاب «السقوط» للمسرحي فريدريش دورنمات يحتوي على ثلاث قصص كانت نشرت بالألمانية في أوقات متفاوتة قبل أن تجتمع في كتاب واحد اختار منه الكاتب والمترجم سمير جريس ثلاث قصص نقلها عن الألمانية، وقدّم لها معرّفا بأدب دورنمات القصصي. صدر الكتاب عن «الكتب خان للنشر والتوزيع» في القاهرة، 2017.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى