‘على كف عفريت’ لكوثر بن هنية: اغتصاب تونس

أمير العمري

“على كف عفريت” هو الفيلم الطويل الثالث للمخرجة التونسية كوثر بن هنية بعد “شلاط تونس” (2014) التسجيلي المطعم بخيط روائي وبعض الخيال المبتكر، يصور موضوعا ينطلق من الواقع ويبحث في ظاهرة “الشلاط” التي عرفتها تونس العاصمة، وهو الشاب الذي كان يمزق سراويل الفتيات الضيقة من الخلف بسكين، تلاه فيلم “زينب لا تحب الثلج” (2016) الذي ترصد فيه المخرجة تطور حياة طفلتين انتقلتا مع والديهما للعيش في كندا، من خلال فيلم لا يسعى إلى أكثر من التوثيق والتسجيل دون أن يكون لديه موضوع محوري أو قصة محددة المعالم، لكنه كفل لمخرجته على أي حال الحصول على تمويل من جهات عديدة أوروبية، لإخراج أول أفلامها الروائية الطويلة.
تسعة فصول

فيلم “على كف عفريت” الذي عرض في قسم “نظرة ما” بمهرجان كان في دورته السبعين يعتمد من ناحية الموضوع على واقعة الاغتصاب التي تعرضت لها فتاة في تونس عام 2012 من جانب رجلي شرطة وكيف قضت الليلة بكاملها تحاول إثبات واقعة الاغتصاب، وظلت تنتقل ما بين أقسام الشرطة والمستشفيات، حيث تعرضت للمزيد من الإهانات والإهمال المتعمد واللامبالاة والتهديدات المختلفة.

وقد وثقت الفتاة، واسمها مريم بن محمد، ما وقع لها في كتاب بعنوان “مذنبة بأنني أغتُصبت” وضعته بالتعاون مع إيفا جمشيدي وصدر بالفرنسية عام 2013.

لا شك أن كوثر بن هنية تقدم في هذا الفيلم خطوة كبيرة إلى الأمام، فهي تقدم عملا قويا، يمسك بتلابيب الموضوع، ويترك تأثيرا كبيرا على المشاهدين، بسبب طريقتها في الإخراج التي تجعل الفيلم بأسره يبدو رحلة ليلية كابوسية خانقة، وتجسد ما تمر به الفتاة من تداعيات مع الشرطة والمؤسسة الطبية الرسمية والإعلام، ما يظهر من هذه التداعيات وما يختفي وتكتفي بن هنية بالإيحاء بوجوده أو بما يمكن أن ينتج عن انتقال حقيقة ما وقع إليه.
بن هنية تجعل من اغتصاب مريم فيلما يمتزج فيه السياسي بالاجتماعي بالنفسي، بحيث يصبح في النهاية كما لو كان يفضح المؤسسة الاجتماعية العتيقة بقيمها البليدة والمتخلفة التي تجعل من الضحية مذنبة، فيصبح الفيلم كموضوع، وكأنه معادل درامي لاغتصاب تونس نفسها من جانب ذلك النظام الدكتاتوري القمعي الذي كانت المؤسسة الأمنية تعيث فيه فسادا.

لكن الأمر لا يتوقف فقط عند حدود مؤسسة الشرطة بل يصور الفيلم بوضوح كيف أن النظرة السائدة المستقرة عن المرأة، وعن الجنس، كان من الطبيعي أن تنتج هذا التشوه وتلك التداعيات التي أضافت إلى مأساة مريم الكثير من المآسي الأخرى.

اختارت بن هنية شكلا تسعة فصول متعاقبة لرواية قصة مريم، يحمل كل فصل رقما بالترتيب، ويشمل كل فصل مشهدا مصورا في لقطة واحدة تدور فيها الكاميرا وتتوقف أمام الشخصيات، وتنتقل فيما بينها داخل الديكور الواحد (غالبية الفيلم في ديكورات طبيعية)، بحيث نصبح وكأننا نشاهد أمامنا إعادة تجسيد لما شهدته مريم في تلك الليلة في زمن أقرب ما يكون إلى الزمن الطبيعي للحدث ممّا بعد منتصف الليل حتى مطلع الصباح.

في الفصل الأول نشاهد مريم الطالبة الجامعية ترتدي فستانا يكشف عن جسدها الفائر المثير، في حفل أقامته الجامعة لطلابها، تتعرف مريم في الحفل على يوسف وهو شاب كان يقف وحيدا والواضح أنه لا ينتمي إلى طلاب الجامعة، ويدور حوار قصير بين الاثنين، لا نسمع تفاصيله بسبب طغيان الموسيقى، لكن نفهم أن مريم تشير ليوسف بأن يأخذها إلى الخارج؛ إلى شاطئ البحر القريب.

وفي الفصل الثاني مباشرة نرى مريم تجري وهي تبكي ويوسف يجري وراءها يحاول اللحاق بها ويطلب أن تتوقف، طريقة صياغة المشهد على هذا النحو تجعل المشاهدين يعتقدون أن يوسف ضايق مريم بشكل أو بآخر وأنها تهرب بعيدا عنه بينما يحاول هو اللحاق بها. ولكننا سرعان ما نكتشف أن مريم تعرضت لتوها للاغتصاب من جانب شرطيين، نشاهد سيارتهما تمر في الليل بجوار يوسف ومريم التي تكتشف أيضا أنها نسيت حقيبة يدها الصغيرة داخل السيارة وفيها هاتفها المحمول وأوراق هويتها.

وقعت بن هنية في اختيار خاطئ تماما من وجهة نظر كاتب هذا المقال، فقد اختارت عامدة ألا تصور الحدث الأهم في الفيلم كله وهو حادث الاغتصاب، ولكن المتفرج سيعتقد طيلة الوقت أنها تدخر المشهد الحقيقي الصادم إلى وقت لاحق، وهو توقع لا يصيب أبدا، فهي تكتفي بالتركيز على ما بعد الحادث، أي تردد مريم بمساعدة يوسف الذي يصر على ضرورة تسجيل الحادث بالذهاب إلى مستشفى خاص لإجراء فحص لإثبات وقوع الاغتصاب، لكن العاملين يرفضون التعامل مع حالة مريم، لأنها لا تحمل بطاقة هوية.

عندما يتوجه الاثنان إلى قسم الطوارئ في مستشفى حكومي يرفضون أيضا التعامل معها بدعوى أن الاغتصاب ليس من حالات الطوارئ، وتقول لها الطبيبة بوضوح إنها غير مختصة بل وغير مؤهلة لفحص حالات الاغتصاب الذي هو من مهام الطب الشرعي.

أما الطبيب الشرعي فينصحها بضرورة إثبات الحالة في قسم الشرطة أولا قبل أن تعود إليه، وعندما تتوجه إلى القسم التابع للمنطقة التي وقع فيها الاغتصاب تعامل باستهانة وتوبيخ وسخرية ويوهمونها بأنهم يدونون تقريرا في حين أنهم يحاولون بشتى الطرق التستر على زميلهم.

وفي الوقت نفسه يحاول ضابط القسم استفزاز يوسف الذي نفهم أنه كان مشتركا في تظاهرات الاحتجاج، وعندما يذهب يوسف ومريم إلى المركز الرئيسي للشرطة يواجهان هناك بمجموعة من الضباط الذين يمارسون كل أنواع الضغوط النفسية والإهانات والتهديدات لدفع مريم إلى التنازل عن شكواها، وحتى الشرطية وهي سيدة حامل، تبدي في البداية نوعا من التعاطف مع مريم، لكنها سرعان ما تتراجع وتتهرب من تحمل أي مسؤولية تجاهها وتتركها فريسة للضباط الذين يعتبرون شكوى من هذا النوع إذا ما تم قبولها، إساءة للنظام السياسي في تونس.
تبريرات واهية

أمامنا مجموعة من الرجال الذين يتخذون من ملابس مريم المتحررة مادة للتعريض بها وكأنهم يبررون تعرضها للاغتصاب بسبب ملابسها، وتارة أخرى يتوقفون أمام علاقتها القصيرة بيوسف، وكيف أنها كانت وحدها معه على الشاطئ في الليل، ويصرون على أن من اعتديا عليها إن كانت صادقة في دعواها، ليس من الممكن أن يكونا من رجال الشرطة بل مجرمان ينتحلان صفة الشرطيين.

هذه الدراما الكابوسية تنتقل من مكان إلى آخر، والاعتماد الأساسي في الفيلم من الطبيعي أن يكون على “الميزانسين”، أي على تصميم اللقطات وعلاقة الكتل بالفراغ، الضوء الشاحب الذي يميل إلى الاصفرار، الظلال، الديكورات الضيقة الخانقة والكاميرا الثابتة في معظم المشاهد.

وفي مشهد ما عندما يظهر لنا الشرطيان اللذان ارتكبا الجريمة داخل قسم الشرطة، يحاولان تهديد مريم بوضع الشريط المسجل بكاميرا الهاتف المحمول على موقع فيسبوك وهو ما يمكن أن يتسبب في فضيحة لها أمام أهلها، تقاوم مريم ثم يدفعها أحدهم فتسقط مغشيا عليها وبجوارها يسقط الهاتف المحمول وعلى شاشته الصغيرة نتابع ما يفهم منه أنه مشهد الاغتصاب، ولكن دون تفاصيل ومن خلال لقطة قريبة لوجه مريم وهي تصرخ وتتألم.

وكان من الأفضل دون شك أن تعيد بن هنية تقطيع مشهد الاغتصاب وجعله يتداعى في ذاكرة مريم وهي تغالب الغياب عن الوعي، ولكن لأسباب غير مبررة فضلت المخرجة استبعاد المشهد الصادم الذي يظل في فيلم كهذا حجر الأساس في الموضوع، فجميع التداعيات التي نشاهدها هي نتيجة لفعل الاغتصاب.

يعاني الفيلم أيضا من بعض الإطالة خاصة في الفصول الثلاثة الأخيرة، ومن غلبة الحوار والوقوع في الكثير من الاستطرادات وتكرار المعنى نفسه بأكثر من طريقة عبر عبارات الحوار. ولكن رغم أي ملاحظات سلبية، يبقى الفيلم متمتعا بالكثير من الحيوية بسبب سيطرة بن هنية على الإيقاع في معظم المشاهد، مع التحكم في الأداء التمثيلي وهو متميز من جانب مجموعة الممثلين جميعا، والصورة المتميزة لمدير التصوير السويدي يوهان هولمكيست.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى